مصطفى الفقي
اختلفت وجهات النظر في تصوّر العالم الجديد الذي نخطو نحوه بعد المأساة الدولية الناجمة عن وباء كورونا، وقد رأى البعض أنها ستؤدي إلى عالمية المواطن بحيث يصبح جزءاً من الكل الشامل في عصر جديد، بينما رأى آخرون عكس ذلك، فهم يعتبرون أن الاحتمال الأرجح هو الإحساس بالعزلة والانكفاء على الذات والبعد عن الاندماج مع الأمم المختلفة والشعوب الأخرى. وكلا الرأيين له ما يدعمه من وجهات النظر، وإن كنتُ أميل إلى التوجه الأول الذي يعتقد أن ما جرى قد أدى إلى خلق شعور مشترك وإحساس واحد تجاه القضايا ذات الطابع الأممي، فلقد صنعت كورونا قاسماً مشتركاً بين البشر، جعلته يدرك أن الخطر واحد وأن المصير لا يختلف بين جنس وآخر ومواطني دولة معينة ودولة أخرى. لذلك فإنني أزعم أن عصر القوميات قد يتوارى مستقبلاً وتحلّ محله مجموعة المخاوف المشتركة من الأوبئة والأمراض حيناً ومن التغيرات المناخية حيناً آخر، فضلاً عن المعاناة المقبلة من شحّ المياه ونقص الطاقة وندرة الموارد وتلوث البيئة وشيوع الإرهاب والجريمة المنظمة. ولعلي أزعم هنا أيضاً أن قضايا الحريات العامة والمشاركة السياسية والديمقراطية الحديثة قد لا تجد كلها ذلك الموقع الذي تمتّعت به حتى الآن وستحلّ مكانها المسائل المتصلة بالبحث العلمي والابتكارات الجديدة والرؤية الحديثة لإمكانية إخضاع الإنسان لقوى كبيرة تحاول السيطرة على الكون ومخلوقاته ووضع قيود على حركته.
ولعلنا نتابع – ولو بتساؤلات عدّة وشكوك كثيرة – قصة الشريحة التي يريدون غرسها في أجساد البشر جميعاً بحيث تعدُّ عليهم حركاتهم وسكناتهم وتخضعهم لقوة أكبر قد تكون تحالفاً غير شرعي بين الآباء الكبار للنظام الرأسمالي التراكمي وبين أجهزة الاستخبارات الكبرى بحيث يشكّلون جميعاً العقل الجديد الذي يوجه العالم في الاتجاه الذي يراه ويسير به إلى حيث يشاء، واضعين في الاعتبار دور الذكاء الصناعي والإنسان الآلي. ولقد قرأتُ أخيراً دراسة مثيرة عن احتمالات المواجهة المقبلة ولو بعد حين بين الإنسان الآدمي والروبوت – أي الإنسان الإلكتروني – الذي يؤدي أعمال الإنسان الطبيعي ذاتها تقريباً مع تكلفة أقل ومن دون أجر مطلوب واندهشت لاحتمالات حسم المنافسة لصالح الإنسان الآلي والاعتماد على الذكاء الصناعي، أما عن الحريات وحدودها، فحدّث ولا حرج فسيكون الإنسان مراقباً طول الوقت بحيث يوجد في داخله مَنْ يرصد عليه أفكاره وانتقالاته وانفعالاته بل طموحاته أيضاً، إننا نواجه عصراً مخيفاً بدأت ملامحه (ببروفة) تجريبية في عالمية الوباء الذي لم ينحسر بعد والذي ترك آثاراً غائرة في التركيبة النفسية للبشر في كل زمان وأخضعنا لحالة من الترقب، تجعل ثمن الحياة والبقاء هو القبول بكل التغييرات المحتملة والتطوّرات المستجدة، وهنا أستأذن القارئ في أن أطرح بعض الملاحظات:
أولاً: لقد عاشت البشرية في معظم دول العالم عصر الأيديولوجيات المستندة إلى عقائد فكرية وانتماءات سياسية، فعرفنا الدولة المستندة إلى أيديولوجية محدّدة سواء كانت قائمة على النظام الاشتراكي المركزي الذي ينطلق من النظرية الماركسية أو تلك التي كانت نبتاً من تربة النظام الرأسمالي القائم على التنافسية والاقتصاد المفتوح والانفتاح على الحريات العامة. ولقد ظلّ الأمر كذلك حتى احتدمت بين النظامين حرب باردة في أعقاب الحرب الكونية الثانية ثم انتهى الأمر في نهاية ثمانينيات القرن الماضي إلى انهيار الأيديولوجية الماركسية بعد تراجع الظاهرة الاستعمارية المستندة إلى النظام الرأسمالي الغربي، وتصوّرنا أن الأمر يمكن أن ينتهي عند ذلك ولكن الذي حدث هو اندلاع حرب اقتصادية كانت ساحتها الدولية هي منظمة التجارة العالمية، بينما امتدّ تأثيرها إلى سباق العملات والضربات الخفية من خلال الأنظمة النقدية ومعدلات التبادل التجاري بين الدول الكبرى. فلقد دخلنا في عصر أصبحت السيادة فيه لِمَن يملك المعرفة والمال، لا مَنْ يملك السلاح ومعدّات الحرب الحديثة، لهذا السبب جرى تصاعد للقوميات والأيديولوجيات معاً في العقود الأخيرة تحت شعار كبير يتحدث عن صراع الحضارات ويقسم العالم قومياً على نحو غير مسبوق.
ثانياً: إنّ ما جرى في الأشهر الأخيرة من امتداد لوباء كورونا حتى هدّد حياة الأسر والأفراد في كل مكان، جعلنا نتساءل عن إمكانات المواجهة المستمرة مع القوى الجديدة في كل اتجاه، بما في ذلك الأوبئة الفتاكة والأمراض الطارئة التي صنعت في النهاية حلفاً صامتاً بين البشر، دفع الجيش الأبيض في الطب والتمريض إلى الصفوف الأمامية بديلاً للجيوش العسكرية أو التكتّلات الاقتصادية وأشعَر الجميع بأهمية البحث العلمي، خصوصاً في مجالَيْ الطب الوقائي والطب العلاجي. ويكفي أن نتذكّر أن حديث كل قادة العالم قد تركّز لأكثر من نصف عام على قضية كورونا وحدها بحيث أصبحت الشغل الشاغل في السياسة والإعلام، في الاقتصاد والمجتمع، وستظل في الذاكرة البشرية مخاوف تلك الفترة لا تغيب أبداً.
ثالثاً: لقد أطلّت بوادر العالمية على حساب القومية منذ انتهاء الحرب الباردة سياسياً والدخول في عصر ذبول القوميات وتصاعد دور المفاهيم الإنسانية المشتركة في ظل الطرح الجديد لحقوق الإنسان، ولكن الذي جرى هو أن فكر العولمة لم يصمد طويلاً أمام الأطروحات العنصرية والتيارات الإرهابية في العقود الأخيرة، بل لقد شعرنا أن استقرار العالم والسلم والأمن الدوليين لا تقف كلها لمجرد غياب المواجهة العسكرية الشاملة بل إن الأمر يتجاوز ذلك لكي يكون حصاداً للأفكار الجديدة والاكتشافات الحديثة والتطوّرات التي طرأت في مجالات الصناعة والتكنولوجيا، فضلاً عن التقدّم الهائل في العلوم الحديثة وتداخل فروعها واندماج بعضها لخدمة الإنسان، مثلما حدث بين الطب والهندسة في إيجاد أدوات جديدة وأجهزة علاجية متقدمة لم تكن متاحة من قبل. وبذلك أصبحنا أمام عمليات اندماج علمية وبحثية وتصوّرنا أننا قد عبرنا بها إلى شاطئ الأمان ولكن يبدو أن الحقيقة التي تقول إنّ من يعرف أكثر يكتشف أنه يجهل أكثر أيضاً! هي حقيقة تنطبق على العالم وذاكرته البشرية في هذه الفترة التي عبرنا فيها إلى عالم مختلف وعصر جديد.
رابعاً: يرى البعض أن القومية تستند إلى فكر عنصري ومفهوم عرقي لن يكون له مجال في المستقبل، ولقد قال ذلك عدد كبير من أساتذة علم السياسة وخبراء القانون الدستوري الذين اتفقوا على أن عصر القومية هو مرحلة وليس هدفاً نهائياً للدول والشعوب، بل أضافوا إلى ذلك شعوراً بالقلق تجاه التوجّهات الشيفونية والانحيازات القومية التي لا تخلو من رؤية عنصرية وفكر متعصب، ولقد استبدل عددٌ كبيرٌ من القوى المعاصرة بالمفهوم القومي لديها أفكاراً أخرى حديثة تقوم على مفردات مثل حقوق الإنسان والحريات العامة والتكامل الاقتصادي والحفاظ على البيئة وحماية الأقليات. وعلى الرغم من ذلك كله، فلقد أثبتت الأحداث في مواجهة وباء كورونا أن البشرية ما زالت تفتقد إلى أطروحات عصرية تنتج توفيقاً بين الانتماء القومي وبين الانضواء تحت مظلة عالمية واحدة.
خامساً: إنّ الغرب الذي صدّر إلينا فكر العولمة بعد سقوط حائط برلين وبداية الحديث عن انسياب الأفكار والسلع والخدمات من دون النظر إلى الحدود الدولية والحواجز الإقليمية؛ إنّ هذا التفكير الذي رحّبنا به جميعاً لم يصمد طويلاً، فقد صدّر الغرب ذاته فكراً مختلفاً يتحدث عن صراع الحضارات والمخاوف الجديدة ممّا يُسمّى بالخطر الأخضر أي (الإسلاموفوبيا) بديلاً للمخاوف التقليدية تجاه النظم الشيوعية التي كنّا نسميها بالخطر الأحمر. من هنا بدأت المواجهة الدامية بين الإرهاب الذي يرفع رايات الإسلام للخداع والتضليل وبين القوى الغربية الصاعدة التي تتوهّم سيادتها على العالم وحقها في توجيه الأمور، حتى أصبحنا أمام ظاهرة استقطاب جديدة تمهّد لحرب باردة على أسس اقتصادية وتكنولوجية ربما لم تكن مطروحة من قبل، ولعل الجدل الساخن بين الولايات المتحدة الأميركية والصين يُعتبر مؤشراً إلى ذلك ومؤكداً عليه.
إن عالمية الوباء والمخاطر المشتركة توحي بأفكار جديدة ورؤية مختلفة ولكن ذلك لا يمنع من أن صراعاً مكتوماً بين القومية والعالمية سينعكس على المستقبل القريب والبعيد… إنّنا أمام تغييرات آتية وتطوّرات هائلة وعصر جديد!
المصدر : أندبندنت