كتب : قادري أحمد حيدر
لم أجعل عنوان هذه الكتابة ، المقالح الشاعر /الناقد ، مؤكداً على فكرة وقضية الإنسان . ذلك أن الشعر والشاعر والنقد والناقد والجمال الفني والإبداع عامة ، هي حالة إنسانية ولا يمكن تصور هذه الكلمات المفردات المعاني دون توفر واكتمال الشرط الإنساني . فمن يحمل صفة الإنسان والإنسانية لا يحتاج شيئاً من خارجه .. هو بذاته خلاقاً وصانعاً لهندسة أعماق ما في الروح الإنسانية : شعراً ونقداً وسرداً ، وحكاية ومقالة . وفي كل ذلك تجد عبدالعزيز المقالح الإنسان متربعاً على سدرة عرش هذه المعاني في اكتمال أخلاقي خلاق ، وفي استواء لا نظير له .. تجد روحه تمتد طيفاً ، وأسمه محفوراً على الخلائق في صورة ألوان قوس قزح ، كل الأعناق تشير إليه ، وترنو إلى داخل جماله الإنساني.
لم أقل المقالح الشاعر مع أنه الشاعر من أوسع أبواب الشعر رحابة ، ولم أسمه بالناقد مع أنه مدرسة نقدية “ذاتية” خاصة به تشكلت منذ إثرائه المكتبة اليمنية / والعربية بالعشرات من الكتب النقدية التي ترحل بك إلى تفاصيل مدارات الكتابة الإبداعية النقدية ، كتابة لم تتوقف يوماً لتطال فضاءات الإبداع في أجناس الأدب المتعددة في الداخل والمحيط العربي والإنساني .
إنه المقالح الإنسان جعل من قرية المقالح المنسية منطقة ثقافية وحالة شعرية وإنسانية تجوب العالم من خلال الدفقة الوجودية والحياتية الإنسانية الجليلة التي نفخها في روحها لتتحول معه ومن خلاله إلى اسم علم ثقافي إنساني كبير . هكذا هم الكبار أبداً يكبر من حولهم “بشراً /وحجراً” بهم ، حتى رقعة الأرض الصغيرة المجهولة يتسع مدى فضائها الجغرافي والثقافي والتاريخي لتتحول من مجهول إلى معلوم في هيئة كائن حي يتحدث به لسان الكلمات بلغة إنسانية رصينة ومتينة ، لغة وكلمات تحتفي بالإنسان .. تجد المقالح الإنسان في كامل أناقته البلاغية في كل ما يكتب ، كما تراه في كل ما يفعل سلوكاً لا ينفصل عن القول ، لأن الإنسانية ، كظاهرة ، لا يمكنك أن تفككها وتدرسها إلاَّ باعتبارها قيماً ، وسلوكاً إنسانياً .. قيماً أخلاقية وحياتية ومعرفية عابرة للجغرافيا ومكللة بجلال التاريخ .. ذلك هو المقالح الإنسان .
ولله درك يا ابن اﻻلفارض في قوله :
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
فما أختاره مضنى به وله عقل .
هكذا هو المقالح الإنسان لا تستطيع إلاَّ أن تحبه .
يمكنك أن تسقط عليه جملة هائلة من الأسماء والصفات والنعوت والألقاب ، ولكنك بعد الانتهاء من كل ذلك التوصيف الإسقاطي الذاتي ، ستجده فائضاً عن الحاجة إليها جميعاً ، مكتفياً باسمه الإنساني الخالد .
قبل أكثر من عشرين عاماً أجريت معه حواراً مطولاً لمجلة “الثقافة” ، وقلت له ما معناه : أين تجد نفسك : في الشاعر أو الناقد ؟ فقال : أنا الشاعر وفقط . ذلك أنني حصرته بين خيارين هما جزءاً من تكوينه الذاتي الإبداعي . وقبل أيام وتحديداً في يوم الأثنين 25/6/2018م ، وفي حالة مفاجئة باغته سائلاً ودون مقدمات : أين يجد المقالح ذاته : في الشاعر أو في الناقد أو في عمومية الحالة الإنسانية “أي الإنسان”؟ فرد علي قائلاً : أجيبك وبسرعة : في الإنسان . وعلى ذلك جاءت هذه القراءة السريعة عنه وحول الإنسان فيه .
إنه المقالح الإنسان يحتوي ويختصر في ثنايا تكوين إسمه / ذاته كل العناوين والصفات والألقاب والأسماء النبيلة ، من الصعب استغراقه في جملة نقدية أو في عنوان كتابي إبداعي جمالي واحد . فالإنسان المبدع بذاته لا يقبل الاختزال ممتنع عن الاستغراق في صفة واحدة ولا يقبل توصيفه في خانة إبداعية على جلال ذلك التقدير النقدي ، مع أنها جميعاً : الالقاب والصفات والمسميات جزءاً لا يتجزأ من تكوينه الذاتي الإبداعي ، لأنه باختصار : المقالح الإنسان .
هناك من لا يحبون الشعر ولا يتذوقونه وغير مهتمين بالقراءة والكتابة بالمعنى المعرفي / الثقافي ، إن لم أقل إن البعض منهم علاقته بالشعر والنقد تحديداً غير ودية ، ولكنهم يحبون ويعشقون ويمجدون في المقالح الإنسان ، في وجوهه القيمية والأخلاقية والإنسانية المتعددة . ولذلك لا تتوقف زياراتهم إلى محرابه “كعبته” مركز الدراسات /أو المنزل في أيام المقيل .. وحتى اللحظة /اليوم لا تتوقف زياراتهم له وهو الذي ليس بيده سوى سلطة أخلاقية وإبداعية ، سلطة الكتابة ، والكثيرون منهم لا يرجون من ذلك منفعة أو تلبية غرض . ذلكم هو المقالح الإنسان .. لا يحتاج إلى إضافة ألقاب تمييزية ، وإلى أفعال تفضيل تتقدم اسمه لأنها تقلل وتنتقص من قيمة الإنسان فيه .
كان جان بول سارتر –كما يقول خيري منصور- مكتفياً بتعريف نفسه بأنه إنسان يقرأ ، رافضاً تحميله من الألقاب ما يثقل كاهله . أما المقالح عبدالعزيز ، فقد أكتفى بأنه المقالح الإنسان . أما كونه يقرأ ، فتلك لا تتعدي أن تكون تحصيل حاصل ، قلتها عنه أو تركتها ، هي تفصيل من وجوده الإنساني الخلاق .
من ينسي أو يغيب عنه ، في زحمة الكتابة ، كونه ناقداً أو شاعراً أو صحفياً ، ستصدمه المكتبات بالعشرات من الدواوين ، والعشرات من الكتب النقدية التي تدل على ذلك . على أنك حين تبحث عن الإنسان في داخله ، ستجد في سطور ما يكتب كائنات تمشي على هيئة يراع وقصائد تقول لك : من هنا مر المقالح الإنسان ، هنا يقيم الإنسان المقالح .. وسترى الإنسان بصورة أوضح وأعمق في سلوكه اليومي ، في تعاطيه الفائض إنسانية وجمالاً وقيماً ومحبة لكل من حوله . لا أقول بذلك أنه إنسان كامل ، فلا كمال سوى لله وحده سبحانه وتعالى ، على أنه إنسان يسعى أبداً إلى أن يتحرر من نواقصه اللاإنسانية “البشرية” ، وهذا يكفي . فالسعي المضطرد نحو الإنسان هو ما تقوله سيرته الذاتية اليومية ، فكره ، سلوكه اليومي .
سمعت وعرفت من تتبعي لسردية الأشخاص / الأسماء عن معنى التواضع ، ومن تجربتي الحياتية مع أطياف واسعة من الفئات والطبقات (أفراداً وجماعات) ، عرفت وتعلقت بنماذج إنسانية تحوي في سلوكها خلاصة مكثفة لمعنى البساطة والتواضع وعفة اللسان . ذلك أن من سمات العلماء الكبار والقامات التي مهنتها صناعة الفرح ، من سماتها محبة الناس والتواضع .
على أن بساطة وتواضع المقالح الإنسان التلقائي / الطبيعي غير المفتعل يضعك دائماً في زاوية حرجة من الخجل ، تواضع يحرج ويخجل من حوله ، تواضع لا تجد توصيفاً وتفسيراً له سوى أن من تواضع لله رفعه . والمقالح الإنسان قريب من الله في سلوكه الصوفي الإنساني .. يكفي أنه يكرس الجزء الأعظم من وقته لخدمة الناس ، ويجد متعته في قضاء حوائجهم دون تأفف أو تململ ، ويجد في ذلك راحته ومنتهى سعادته .
على صدر جدار مكتبه يعلق الآية الكريمة الدالة على روحه البسيطة المحبة لمن حوله والكارهة للتكبر ورفض الظلم ، هي الآية القرآنية القائلة :”وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً و العاقبة للمتقيين ” صدق الله العظيم .
طيلة أكثر من عشرين عاماً على اقترابي اليومي منه ، لم أر فيه سوى إنسان يتخلق ويتعملق ويفرض نفسه على من حوله بكل احترام وجدارة موقف ، ذلكم هو المقالح الإنسان والصديق الذي تعلمت منه طيلة عقدين من الزمن في علاقة شبه يومية لا تنقطع ، تعلمت منه معنى الصبر ، والقدرة على الاحتمال والكثير من المعاني الرفيعة السامية . فلا أذكر أن يوماً طيلة هذه الرحلة مر دون أن التقيه ما دمت متواجداً في أرض الوطن ، وهو المقيم في الأرض دون انقطاع ولا مغادرة للمكان / الوطن ، كما لا أذكر أن أحداً خرج من لديه يحمل ندبة غضب أو متبرماً ، مع علمي أن رضا الجميع غاية لا تدرك ، ولكنها غاية يستدعيها ويحاول تمثلها المقالح الإنسان .
إن تعلقه الإنساني بالأشياء البسيطة والصغيرة بأفق إنساني مفتوح هو من صنع حالة الفرح والحزن الصوفي الجميل في شعره ، هو من هندس حالة الجمال الآخاذ في كل ما يكتب ، لأن “الإنسان” عنوان كل ذلك .
يقف ويقع في منزلة حرجه “فارقة” بين منزلتي “الإنسان” من جهة والسعي الدائم للاتصال بالإنسان والإنساني من جهة أخرى، وقت بين الورد ، والوعد .. فيه تقرأ الورد ، وتشم رائحة الوعد انتظاراً للأجمل . ومن هنا اشراق شمس الكلمات النبية من قصائده ، ومديح الفرح الطالع من روحه ، وجلال العشق الصوفي فيما يكتب ، وهو بذلك ينتصر أبداً على حالة الضعف الإنساني الذي يرافقنا ، ويتحرر من عقل هزيمة الأخر . فالإنسان في أعماقة يفيض عليه حباً لمن حوله ، فلا أحد ينكر أننا نمر بمرحلة فوضى ثانية / جديدة ، مرحلة “غسقية” لا سابق لها ، غسقية تحجب حتى ظلمة الليل ، وتغطي بسوادها الفاجع اشياء كثيرة من حولنا وكأننا في سدرة منتهى الإظلام .. إطباق العتمة على الكلام والمكان ، ومع ذلك يتعملق الإنسان فيه ليقول “أعلنت يأسي” .ولكنك ما إن تبادر إلى تفكيك حروف مفردات ومعاني ذلك الإعلان “اليائس” أو الذي قد يتبدى للبعض يأساً لا ترى سوى –في أسوأ الأحوال- صورة الإنسان “المتشائل” -حسب تعبير أميل حبيبي – إن لم أقل لا ترى سوى الإنسان المتفائل في قلب تمظهرات ذلك المسمى يأساً .
فالمقالح الإنسان ، في تجلياته الوطنية والقومية والإنسانية هو من ترى في معظم قصائده الشعرية الأخيرة ، التي قد تزيد في مجموعها عن خمسه دواوين من الشعر الجميل الخالد ، وفي أقل من ثلاث سنوات ، قصائد تفضح أو تكشف ثنائية جدلية :الغسق والشفق ، جدلية الوقت الكائن بين الرماد ، والورد ، وفق تعبير الشاعر علي أحمد سعيد ادونيس ، لأن الإنسان في روح وعقل المقالح هو من يبصر سراديب الغسق من يرى بعيني زرقاء اليمامة الشفق الإنساني الصاعد في اللامتناهي من الضوء ، فالإنسان في أعماقه يدل على ذلك ويشير إليه .
إن أجمل ما نحلم به وما نتوق إليه آت في رسائل إنسانيتنا المكبوتة في جب غسق الأشياء العابرة ، ولذلك فإن الكثير مما يكتبه البعض اليوم لم يقل حبرها ، الذي يشبه الدم ،شيئاً عن خبايا وخفايا تفاصيل الحقيقة الشفقية الإنسانية الخالدة ، التي بدأت بشائرها الأولى قبل نيف وخمسة عقود من الزمن . ودارت الأرض دورتها المجيدة لتعلن امتداد ميلادها الثاني في الأرض مع ثورة شباب اليمن 2011م ، وهي دورة بدأت ولن تتوقف مهما تمادت الجمل الاعتراضية في طريقها ، مادام الكائن الإنساني الناشد التغيير هو من يحركنا وما حولنا ، ومادام توقنا الإنساني سيد قراره وحامي وحامل رأية مصيره في كل ما نريد وما نأمل .. هي سنة الحياة المتجددة لن توقفها الكتابات الصماء الميتة التي تحاول تبشيرنا بأن مستقبلنا خلفنا ، فالإنسان في المقالح ، وكل من يقتربون منه ويشبهونه ، لا يتوقف سعيهم الدائب سيراً نحو الإنسان المرتجى .
أجمل القصائد ستكتبها إنسانيتنا الآتية ، وأحلى الأيام سيصنعها فرحنا المكبوت “المحتجب” في انتظار الفرج أو الفرح ، الذي قطعاً سينطلق ليرى النور ولو اجتمعت كل أحفوريات الغسقيات دون انطلاقته . فالغسق يتبعه شفق إنساني بحجم تطلعاتنا المقموعة والمقهورة ، شفق تصنعه أرواح انسانية خالدة ، عبدالعزيز المقالح انموذجها رائيها ، وفي هذه الرائية والتنبؤية العظيمة تلتقيان أنت ورفيق عمرك ودربك الشاعر الكبير عبدالله البردوني .
قبل شهر كنت أودع الدكتور عبدالعزيز الإنسان حتى باب سيارته مغادراً المركز إلى منزله في انحناءة جسدية هي من علامات الدهر وتعب العمر الذي كابده المقالح الإنسان في رحلة تعب طويلة ، حتى سنوات الغسق الكالحة التي تطل برأسها علينا اليوم ، فعلق الصديق الباحث الاستاذ / أحمد الجبلي على انحناءة تعب العمر قائلاً بما معناه : أرى طوداً شامخاً يغازل السماء وينتصر على تعب العمر وأكمل حديثه مسترسلاً ما معناه : لم أر انحناءة ، بل سنديانة جذورها في أعماق الأرض ، وتسعى لمعانقة السماء في صورة روح الإنسان الكائنة في هذا الرجل الإنسان .
هو حقاً يعانق روح الإنسان في سماء الله الصافية .
الله ما أجملك وأنبلك أيها الرائي العظيم والصديق الإنسان ، الذي تعلمت منه أبجدية إنسانية خالدة في سيرة سلوكه اليومي.