إن القوميين الديماغوجيين هم أسوأ أنواع القادة في الحكم خلال أزمة حقيقية، لأنهم متخصّصون في المبالغة بتهديدات غير موجودة
.
باتريك كوبيرن
تُعتبر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أسوأ دولتين في العالم من حيث التعامل مع جائحة فيروس كورونا. ويشكّل الأميركيون والبريطانيون أكثر من ثلث حصيلة الضحايا الإجمالية التي أوقعها كوفيد-19 والبالغة نحو 300000 ضحية (وقت إعداد هذا المقال). لقد دفعوا الثمن الأغلى لاستجابة حكوماتهم البطيئة وغير الكفوءة حيال انتشار المرض.
يملك البلدان نقاطاً مشتركة واضحة تفسّر فرط الزيادة في عدد الوفيات لديهما. ويُعتبر كل من دونالد ترمب وبوريس جونسون ديماغوجيَيْن وطنيَيْن ماهرَيْن في الفوز بالانتخابات، لكنهما لا ينجحان في التعامل مع الأزمات الحقيقية، خلافاً للأزمات التي يخترعانها أو يُبالغان فيها. وقد توقّع منتقدوهما منذ فترة طويلة حدوث كارثة إذا أصبح أي من الرجلين زعيماً وطنياً، وهو ما حصل في نهاية المطاف.
كنتُ أظن أن ترمب وبعده جونسون سيكونان في مأمن طالما تجنّبا التورّط في أزمات حقيقية قصدتُ بها أساساً الحروب، ربما في الشرق الأوسط، في حالة ترمب. لكن على الرغم من كل تعنّته اللفظي تجاه إيران، لم يذهب إلى حدّ الدخول في نزاع عسكري واسع النطاق على مدى السنوات الثلاث الماضية.
في حالة جونسون، اعتقدتُ أنه سيتدبّر أمره، وأنه إذا حدثت أزمة حقيقية ستكون بسبب الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة. وقد بدا ذلك غير محتمل بسبب سجلّه الحافل بالاستدارة في الاتجاه المعاكس والتراجع أثناء الإعلان عن انتصارات شهيرة. ففي هذا الأسبوع على سبيل المثال، أقرّت الحكومة بهدوء بأنه ستكون هناك بالفعل نقاط تفتيش حدودية بين أيرلندا الشمالية وبقية المملكة المتحدة، على الرغم من نفي جونسون مراراً تنازله عن ذلك كثمن لاتفاق الانسحاب الذي توصّل إليه مع الاتحاد الأوروبي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
كانت الجائحة هي التي حوّلت شخصيتَيْ ترمب وجونسون وعيوبهما السلوكية إلى إخفاقات مميتة، تسبّبت في قتل عددٍ كبيرٍ من الناس منذ ذلك الحين. فهما صعدا إلى السلطة من خلال استغلال المخاوف والطموحات الوطنية بمهارة واستخدام الأجانب في الداخل والخارج كذريعة لتحقيق غايات سياسية. لقد أصبحا كزوج من المخادعين اللّذين نجحا في الترويج للأكاذيب والأوهام، لكنهما وجدا نفسيهما فجأة أمام ضرورة التعامل مع واقع خطير للغاية.
في رواية غراهام غرين “رجلنا في هافانا” Our Man in Havana خدع رجل أعمال بريطاني لطيف، يبيع مكنسات كهربائية في كوبا قبل فترة حكم كاسترو، “جهاز الاستخبارات البريطانية الخارجية” (إم آي 6) MI6 من خلال اختراع سلسلة من العملاء السريين بأجر جيد. كان يقدّم رسومات مطوّرة لمكنسات كهربائية على أنها من أسلحة الدمار الشامل الغامضة. وباعتباره مخادعاً بالصدفة، يعتقد أنه في مأمن من المتاعب لأن عملاءه والسر الذي اكتشفوه، كانا غير موجودَيْن فعلياً. ولكن نظراً إلى وجود أشخاص يؤمنون بتصوّراته، فقد وجد نفسه فجأة أمام واقع خطير يموت فيه أناس حقيقيون.
ويشبه ترمب وجونسون تلك الشخصية المخادعة في رواية غرين، إذ اضطُرّا على نحو مفاجئ إلى التعامل مع أزمة حقيقية بدلاً من أزمة خيالية. وكما هو متوقّع، فقد ظهر جلياً أنهما يفتقدان إلى الكفاءة في مواجهة الأزمة، ما أدى ببلديهما اللّذين يقفان في مقدم الدول المتقدمة إلى تصدّر العالم في عدد الوفيات. ففي تعاملهما مع فيروس كورونا المميت حقيقةً، لم يكن أداؤهما فقط أسوأ من الدول القوية ذات الموارد الجيدة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية، ولكن أيضاً أسوأ من الدول الفقيرة والضعيفة مثل سلوفاكيا في أوروبا وكيرلا في الهند.
لم يرتقِ أيٌّ من الزعيمين إلى مستوى التحدّي، بل أصبحت الجوانب الأكثر سلبية وإيذاءً في شخصيتَيْهما أشدّ بروزاً تحت ضغط الجائحة. فقد كان ترمب على الدوام مهووساً بذاته، وكاذباً واستبدادياً، لكنه تحوّل بشكل واضح في الأشهر الخمسة الماضية إلى متبجّح مصاب بجنون العظمة.
من جانبه، لطالما كان جونسون انتهازياً فوضوياً، إذ أصبح في لحظة ما يُشبه “فالستاف،” مهرج شكسبير الشهير Shakespeare’s Falstaff ، وفي لحظة أخرى بات أقرب إلى ونستون تشرتشل عام 1940. لكن الكارثة الحالية هي التي جعلت من تقديره السيّء واحتقاره للحقائق مزيجاً قاتلاً.
ويبقى أداء ترامب الأكثر غرابة، إذ أنكر لفترة طويلة خطورة تفشّي المرض ورفض تنسيق الإجراءات ضده وروّج لأفكار مجنونة حول كيفية علاجه وتجاهل أو استبعد الخبراء الذين يحاولون محاربة الفيروس. فقد أشار ريك برايت، وهو مستشار علمي حكومي كان مسؤولاً عن المهمة الحاسمة المتمثلة في تطوير لقاح ضد فيروس كورونا، خلال شهادته هذا الأسبوع أمام الكونغرس، أن من أسباب إقالته رفضه دعم عقار مضاد للملاريا يفضّله ترمب كعلاج لكوفيد-19 من دون أي دليل علمي يُثبت أنه مفيد.
لعبت ذات مرة مؤسسة الصحة العامة الرئيسة في الولايات المتحدة، المتمثلة في “مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها” (سي دي سي)، دوراً حاسماً في مكافحة الملاريا وشلل الأطفال. واليوم، يقود هذه المؤسسة روبرت ريدفيلد، المعيّن من قبل ترمب، والذي ترأس سابقاً بشكل مثير للجدل جهود البنتاغون لمكافحة فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز) في الثمانينيات. فعندما أثار ترمب هلع الأطباء في أبريل (نيسان) الماضي باقتراحه أن يحقن ضحايا فيروس كورونا أنفسهم بالكلور وغيره من المنظفات، كشفت “سي دي سي” عن مدى انصياعها له من خلال اكتفائها بإعادة التأكيد على أنه يجب على المستهلكين قراءة التعليمات التي تأتي مع الدواء.
غير أنّ اعتقاد نصف الأميركيين، ونسبة أكبر مِمَّن يعيشون خارجها حول العالم، لفترة طويلة بأنّ ترمب شخصية مجنونة، أجهضت بعض التأثير المفترض الذي كان من الممكن أن يحقّقه هذا التحوّل الجنوني للخطر. ومع ذلك يبقى من الغريب للغاية أن ترى ترمب يتباهى، كذلك الإمبراطور الروماني الذي ادّعى أنه غزا البحر، بتحقيق انتصارات أميركية عظيمة على الفيروس.
أما جونسون، فلطالما كان نهجه السياسي نسخة هادئة وأكثر قبولاً من نهج ترمب، وقد تم تكييفها مع الظروف السياسية البريطانية. لقد أثبت كل منهما قدرته على خوض حملات انتخابية بفعالية، من خلال استغلال المخاوف والطموحات القومية. وعلى عكس أسلوب ترمب المثير للشقاق، فإنّ جونسون متخصّص في الدعوة إلى الوحدة الوطنية ودعم “خدمة الصحة الوطنية”. ومع ذلك، فإنّ وجود هذين الزعيمين في منصبيهما خلال الجائحة، أدى إلى وفاة عدد كبير من الناس في كلتا الحالتين.
إنّ ما حقّقته حالة جنون العظمة المرعبة التي يعاني منها ترمب في الولايات المتحدة، يجري تكراره في المملكة المتحدة من خلال مظاهر غياب الكفاءة الحكومية وضعف صناعة القرار التي تتبع بعضها بعضاً ببطء. وتضمّ هذه المظاهر الاستجابة البطيئة لبدء الجائحة وشحّ المعدّات والنقص الحادّ المعروف في عدد اختبارات التشخيص. وفي البداية، كان يُنظر إلى المؤتمرات الصحافية اليومية على أنها علامة على انفتاح الحكومة، لكن لاحقاً اتّضح أن الوزراء والمسؤولين الصحيين، الذين بدوا واثقين من أنفسهم، لا يعرفون كم من الناس قد أُصيبوا وكم منهم قد ماتوا بسبب المرض.
أدّت قرارات خرقاء إلى تحويل 15000 مريض مسنّ لم يخضعوا للفحوصات من المستشفيات إلى دور الرعاية حيث نقلوا العدوى حتماً إلى آخرين. ونتيجة لذلك أيضاً، أصبح مقدّمو الرعاية والممرضين الأبطال، الذين لم يخضعوا للفحوصات، حاملين للمرض عن غير قصد، ينقلونه إلى المرضى وإلى بعضهم بعضاً. كان معظم هذا واضحاً لأي شخص يتمتّع بفطرة سليمة، ولهذا السبب قرّر كثيرون من المرضى وهم في حالة خطيرة عدم الاقتراب من المستشفيات وماتوا في منازلهم.
في النصف الأول من مارس (آذار)، كانت سياسة الحكومة تستند إلى إرساء “مناعة القطيع” على افتراض أن 60 في المئة من السكان سيُصابون بالعدوى. غير أنّ المعلومات التي اتَّخذوا قرارات الحياة والموت بناءً عليها لم تكن كافية، كما كشفت دراسة استقصائية نشرها هذا الأسبوع مكتب الإحصاءات الوطنية، وأظهرت أن فيروس كورونا أقلّ انتشاراً مِمّا هو مفترض، وأن 0.27 في المئة فقط من السكان أُصيبوا به.
أدى شغف ترمب بالسلطة إلى جعل الجائحة أسوأ بكثير بالنسبة إلى الأميركيين مَمّا كان يمكن لها أن تكون، فيما فعل غياب الكفاءة لدى إدارة جونسون المناصرة لبريكست الشيء ذاته في بريطانيا.
المصدر : أندبندنت عربية