اللعب يدور في الوقت الضائع حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف المقبل
رفيق خوري
أميركا وإيران تلعبان على حافة حرب لن تقع، وتتلاعبان بقصة صفقة من النوع الذي يأتي ولا يأتي. كلاهما يوحي بأنه لا يريد حرباً، معلناً أنه مستعد لمواجهة حرب، وعلى ثقة من أن الطرف الآخر لن يذهب إليها. وإذا كانت إدارة الرئيس دونالد ترمب تضغط من أجل التوصل إلى صفقة، فإنّ المرشد الأعلى علي خامنئي يشدّد على رفض التفاوض منعاً للبحث في الصفقة. والسبب مكتوب على الجدار: واشنطن تريد صفقة كاملة تشمل إعادة التفاوض على الاتفاق النووي الذي انسحبت منه والحدّ من إنتاج الصواريخ الباليستية وإنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة، بالتالي الانكفاء إلى الداخل، أي “الخيار بين الدولة والقضية”، كما قال الدكتور هنري كيسنجر. وطهران تريد إنهاء العقوبات الأميركية وعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي كما هو، من دون صفقة شاملة، لأن ثمنها أكبر من كلفة العقوبات.
اللعب يدور في الوقت الضائع حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف المقبل. طهران تتمنّى نجاح جو بايدن الذي كان نائب الرئيس باراك أوباما المراهن على الاتفاق النووي، وتتحسّب لأيام أصعب إذا بقي ترمب في البيت الأبيض. وترمب لا يريد حالياً أي مغامرة تؤثر سلباً في حظوظه الانتخابية. لكنّ التهدئة الكاملة صعبة، وقواعد اللعبة في هذه المرحلة تفرض المراوحة بين شدّ الحبل والإرخاء. هكذا، مرّت مرحلة ما بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ومعه المسؤول الكبير في الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس: ضربة صاروخية، ثم تفاهم على حكومة مصطفى الكاظمي في بغداد. وهكذا، بدا مشهد التوتر حول ناقلات النفط الإيرانية المتّجهة إلى فنزويلا. وهكذا أُعطيت أوامر بضرب الزوارق الإيرانية إذا استفزت السفن الأميركية، وتعالت الأصوات الإيرانية الداعية إلى ضرب السفن الأميركية، من دون أن يحدث شيء بالطبع.
ذلك أن الإدارة في واشنطن تعتقد أن “الضغط الأقصى” على إيران يعمل. بريان هوك، الممثل الخاص لسياسة إيران في الإدارة يقول إن “الضغط ينجح، وقد احتوينا إيران بالدبلوماسية والردع. النظام مهشّم بالعقوبات والخيار أمام قادته هو: تفاوض مع ترمب أو إدارة انهيار اقتصادي”. وطهران تعترف، على الرغم من المكابرة كالعادة، بأن العقوبات صارت مؤذية، بحيث يرى قائد سلاح الجو في الحرس الثوري أن “المشكلة هي الاقتصاد”. محمد حسين ماليك وهو سفير سابق لإيران لدى الصين، كتب في مجلة دبلوماسية إيرانية أن بلاده تعيد تحديد سياستها الإقليمية بعد سليماني، تعيد خلط أوراقها وتقييم قدراتها ودخلت الحلبة برؤية جديدة وخطة. و”نيويورك تايمز” تنقل عن حاكم البنك المركزي الإيراني قوله إن “أميركا سمحت بالإفراج عن أموال مجمّدة للنظام في بلدان دول ثالثة” وهي طبعاً ثمن نفط.
لكن هذا، في رأي الخبراء، “تبدّل تكتيكي، لا استراتيجي”. فالعداء لأميركا التي سمّاها الإمام الخميني “الشيطان الأكبر” هو من “أسس الثورة”، كما قال خامنئي. وليس لدى جمهورية الملالي بديل من النفوذ في المنطقة وتأمين الظروف لنجاح مشروعها الإقليمي. أما أميركا، فإن لديها بدائل كثيرة من سياسة “الضغط الأقصى”، خصوصاً حين ينفذ صبرها كالعادة. وهي لم تتوقف عن الجدل منذ عام 1979 حول سؤال “من خسر إيران؟” على طريقة سؤال أقدم عام 1949 هو: “من خسر الصين؟”. أيام الرئيس جيمي كارتر، جرى احتجاز الدبلوماسيين في السفارة الأميركية في طهران كرهائن. الرئيس دونالد ريغان جرّب مدّ اليد إلى طهران وإرسال أسلحة لها أيام “إيران غيت”. الرئيس بيل كلينتون أعلن “الاحتواء المزدوج” لإيران والعراق. الرئيس جورج بوش الابن وضع إيران في “محور الشر”، ثم حدث تفاهم ضمني خلال غزو أفغانستان والعراق اللذين أسقطا نظام “طالبان” ونظام صدام حسين المعاديَيْن لإيران. والرئيس أوباما طوّع كل سياسة أميركا في الشرق الأوسط من أجل التوصّل إلى الاتفاق النووي. وها هو ترمب يجرّب الاتجاه المعاكس، والنتائج محدودة حتى اليوم.
والواقع أن أميركا وإيران في حاجة إلى العداء المتبادل بينهما، ولكن ضمن ضوابط تمنع الصدام الكبير، وتبقي المجال مفتوحاً لصراعات محدودة وحرب عصابات بالوكالة. إيران تراهن على العداء لأميركا من أجل شدّ العصب الشعبي والرسملة على الدعوات إلى إخراج القوات الأميركية من “غرب آسيا” للإيحاء بأنّ مشروعها الإقليمي يقترب من الإنجاز. وأميركا تحتاج إلى عداء طهران والعداء الإيراني لدول الخليج من أجل أن يبقى وجودها في المنطقة ضرورياً وأن تبيع المزيد من الأسلحة. لكن المشروع الإيراني يواجه أزمة اقتصادية حادّة في المركز، وتحدّيات كبيرة في الأطراف: التظاهر ضده في العراق، والوجود الروسي والضربات الجوية الإسرائيلية في سوريا تضعفانه، وأزمات لبنان وتركيبته الاجتماعية المعقّدة تجعلانه صعب المنال.
ألم يقل الشاعر قسطنطين كفافي: “ماذا تفعل من دون البرابرة، إنهم نوع من الحل”.
المصدر : أندبندنت عربية