الذين طوروا العربية الحديثة والجديدة هم المثقفون المسيحيون العرب بالأساس
أمين الزاوي كاتب ومفكر
على هامش المؤتمر الذي أعلن فيه عن استقلال الدولة الفلسطينية والذي عُقد في الجزائر العاصمة في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 1988، حكى لنا الحكيم جورج حبش، هذه القصة التي قد تختصر وبشكل جيد، صورة اللغة العربية في مخيال الجزائري، والتي لا تزال مستمرة بشكل كبير مع استثناءات نخبوية قليلة لا تعبر عن العامة. قال الحكيم جورج حبش: نزلتُ ضيفاً على الجزائر وأقمت في العاصمة في فندق “الأوراسي”، وهو فندق من الدرجة الأولى يطل على خليج العاصمة في منظر بديع، وكان ذلك في شهر رمضان. وفي الصباح حينما استيقظت، هاتفت إدارة الفندق وطلبت إحضار طعام الفطور إلى الغرفة. إلى هنا كل الأمور عادية، وبالفعل بعد نصف ساعة تقريباً دخل علي شاب ظريف ومؤدب يحمل صينية عليها ما طلبته من فطور، حين فتحت الباب سلّم علي بأدب باللغة الفرنسية فرددت التحية باللغة العربية، فنظر إلي الشاب بحيرة، وقد تغيرت ملامح وجهه نهائياً، وظل واقفاً متسمراً وسط الغرفة والصينية لا تزال بين يديه، وبعد لحظات رمى بها وما عليها أرضاً على سجاد الغرفة، وصرخ فيّ قائلاً: كيف لعربي ينطق بالعربية لغة القرآن ويتجرأ على أكل رمضان؟ فحاولت أن أشرح له، لكن الشاب كان في كل هيجانه وغضبه وقد فقد أعصابه، وأخذ يصرخ وأنا أحاول أن أهدئه وأشرح له وضعي كمسيحي عربي، ثم صفع الباب وانطلق في سلسلة سباب في الرواق.
هذه صورة رواها لنا الحكيم جورج حبش منذ عام 1988، ولكنها لا تزال سارية المفعول حتى الآن وإن بشكل من الأشكال.
فالجزائري بشكل عام، أنا هنا لا أتحدث عن نخبة معربة تنويرية ضيّقة، يعتبر اللغة العربية جزءاً عضوياً من المقدس الإسلامي. لا يمكن فصلها عن الديني أو بصعوبة كبيرة، لا إسلام من دون لغة عربية، وكأن الشعوب الأخرى المسلمة بلغاتها الوطنية ليست مسلمة، فهو لا يمكنه تصور مسلم باللغة الهندية أو تركي بالتركية أو فارسي بالإيرانية أو كازاخستاني بالكازاخستانية أو الباكستاني بالباكستانية أو… فهو يعتقد بأن كل مسلم عليه أن يكون معرب اللسان، وإلا فسد إسلامه، وهذا التقديس مستمر حتى الآن، فلا نقاش يحدث حول مسألة الهوية، وهو نقاش حاد وحاضر باستمرار في الجزائر ومنذ الاستقلال، إلا وتكون اللغة العربية فيه مربوطة بالدين، لا ينتهي المدافع عن العربية إلا إذا أنهى عبارته بـ”وهي لغة القرآن” أو هي “لغة الدين الإسلامي”، وكأن اللغة العربية وجدت بوجود الإسلام، ونزلت بنزول القرآن، وأنها لم تكن لغة سابقة عن النزول بقرون، وبها كتبت أجمل النصوص الشعرية في الجاهلية، ومن أمثلة ذلك ما اصطلح عليه بالمعلقات الشعرية المعروفة، والتي لا تزال تقرأ حتى الآن وبكثير من الإعجاب، وهي نصوص تعود زمنياً إلى أزيد من قرن ونصف القرن قبل ظهور الإسلام، على أقل تقدير. والجزائري لا يعرف، كما الكثير من العرب، بأن الذين طوروا اللغة العربية الحديثة والجديدة، التي انفتحت على الشعرية المعاصرة وعلى السردية الروائية، هم المثقفون المسيحيون العرب بالأساس، وهناك عائلات مسيحية كثيرة في بلاد الشام عرفت بالكتابة والاجتهاد اللغوي. وربما يكون ذلك لأنها كانت تتعامل مع العربية في ملامسة واحتكاك مستمرين مع اللغات الأجنبية، التي كانت تحرص على تعلمها وتعليمها، وخصوصاً اللغة الفرنسية، ومن الكتاب الذين ثوّروا الخطاب الأدبي باللغة العربية جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومي زيادة وجورجي زيدان، وهي الأسماء الأكثر مقروئية في مرحلة التكوين اللغوي للناشئة في شمال أفريقيا وفي المشرق العربي أيضاً. قد لا يعرف الجزائري والمغاربي والعربي الذي أصبح اليوم ضحية الفكر الإخواني، أن تحديث اللغة العربية نصاً وإبداعاً وأيضاً حتى على مستوى القواميس والترجمة، هم المثقفون العرب المسيحيون.
ومن المظاهر التي تبرز التقديس الذي يصبغه الجزائري على اللغة العربية، أنه يحرم لفّ البضائع بالجرائد المكتوبة بالعربية، من السردين مروراً بالفول السوداني وصولاً إلى قناني النبيذ، لأنه يعتقد بأنه وهو يقوم بذلك كأنما هو يمس النص المقدس أي القرآن، الذي يشترك مع الجريدة في هذه اللغة، حتى وإن كانت هذه الجريدة لحزب شيوعي أو لائكي أو مسيحي أو يهودي.
وقد كانت الأمهات في الماضي القريب جداً، إذا ما عثرن على قطعة ورق سواء من كتاب أو جريدة أو دفتر مدرسي أو ما غيره، مكتوبة باللغة العربية، فإنهن كن يحملن هذه الورقة يقبلنها ثم يضعنها على جبهتهن تكريماً ثم يدخلنها بين شقوق الجدران. وكان محرماً أن يمشي الواحد على الأرض فيدوس قطعة مكتوبة بالعربية، حتى وإن كانت هذه الكتابة في الكفر أو النقد أو المحرّمات، فالجميع يعتقد بأن ما كتب بالعربية وما يكتب بها هو جزء من الدين واستمرار له، فاللغة تتنفس بالدين والدين يتنفس باللغة.
ولعل أيضاً ارتباط العربية بالمقدس في الجزائر يعود سببه إلى أنها ومنذ الثلاثينيات ارتبطت بجمعية العلماء المسلمين تربوياً، فمدارس هذه الجمعية ومدارس الزوايا كانت تدرس النحو والشعر والحساب وتدرس القرآن والفقه والشريعة، وقد تعلم الجزائريون من جيل الثلاثينيات وحتى الخمسينيات من القرن الماضي، العربية في ظل خطاب ديني محافظ، حتى وإن كانت هناك بعض المدارس الفرنكو-إسلامية، والتي خرجت كثيراً من المثقفين المتنورين في الجزائر، إلا أن تأثيرهم في المجتمع كان سياسياً ونخبوياً وليس تأثيراً شعبياً كما هي حال متخرجي جمعية العلماء المسلمين والزوايا الطرقية.
ومنذ استقلال الجزائر عام 1962، وُضِع معلم اللغة العربية في خانة صورة “الشيخ” أو “الفقيه”، أي تقمص اجتماعياً ورغماً عنه صورة رجل الدين. ففي الثانويات والمتوسطات معلم العربية هو من يتولى تدريس الأدب العربي من شعر ورواية، وفي الوقت نفسه يدرس التربية الإسلامية بما فيها من طلاق وزواج وفرائض الوضوء والصوم والصلاة والحرام والحلال. بهذه الصورة الاجتماعية والأخلاقية والدينية النمطية لمدرس العربية ارتبطت اللغة بالمقدس.
وحتى حركة التعريب في الجزائر التي انطلقت في بداية سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت كارثة ليس على المستوى التربوي والتكويني فقط، بل أيضاً على المستوى السياسي، فقد قسمت البلد إلى ثلاث مجموعات اجتماعية متصارعة، إن بشكل واضح أو مستتر، مجموعة البعثيين العروبيين ومجموعة الفرنكفونيين ومجموعة الأمازيغية، ولأن حركة التعريب لم تكن عملية غرضها تعليم اللغة العربية تعليماً حيادياً، بل كانت مرتبطة بأيديولوجيا الدين، فقد أصبح البعثي العروبي الجزائري يدافع عن العربية من باب المقدس، على عكس ما هو في المشرق. فالتعريب في الجزائر قام بأسلمة العروبة، إذ لم يكن تدريس العربية مؤسساً على فكرة العلمانية أي تدريس اللغة كاختيار جمهوري وتربوي وعلمي، بل كان تدريساً قائماً على الخلط بين اللغة والدين، وذلك من أجل تكريس سلطة نظام سياسي معين يريد أن يستثمر في الفهم البسيط للغة وبالتالي اللعب على فكرة التقديس، أي تحويل تقديس اللغة دينياً إلى طاعة لنظام سياسي معين يدافع عن هذه اللغة، أي استعارة صورة جمعية العلماء والزوايا من زمنها الاستعماري إلى واقع جديد، هو زمن الاستقلال، من أجل إدارة الشأن اللغوي والتربوي الذي هو إدارة للشأن السياسي بالأساس.
نقلا” عن أندبندنت عربية