يتوجب على لندن التنبه إلى أن الهجرة من الجزيرة ليست خياراً عملياً
بن تشو
لو لم يهدّد الإمبرياليون البريطانيون الطمّاعون الإمبراطورية الصينية المتهالكة قبل 178 عاماً كي تسلّمهم “صخرة جرداء” في بحر الصين الجنوبي، ربّما لم أكن لأكتب هذه الكلمات اليوم، إذ قدِم والدي من هونغ كونغ إلى المملكة المتحدة في 1960 عندما كان في التاسعة من عمره. ثمّ تعرّف إلى والدتي في شمال إنجلترا وأنشآ عائلة معاً، وحينها بدأت حكايتي الشخصية.
تمكّن أبي من المجيء إلى هنا لأنّ هونغ كونغ كانت مستعمرة بريطانية وتمتّع سكانها بالحقّ في مرحلة من المراحل، بالعيش والعمل في كل بقعة من دول الكومنولث، بما فيها البلد الإمبريالي الأم.
لذا يشكّل موضوع الهجرة من هونغ كونغ نحو المملكة المتحدة جزءاً أساسياً من تاريخ عائلتي، ويمسّني بشكل مباشر. لكنني أعترف مع ذلك بأنّ مشاعر متضاربة تنتابني حيال اقتراح الحكومة أنّها، رداً على صعوبة التعامل مع بكين بشأن فترة ما بعد اتفاق نقل سيادة هونغ كونغ عام 1997، قد تقدّم “سبيلاً للحصول على الجنسية” لحوالى ثلاثة ملايين صيني من هونغ كونغ.
من الصعب التصديق أنّ المملكة المتحدة تهتمّ بشؤون رعايا مستوطناتها السابقة بكلّ شهامة وسخاء، نظراً إلى تاريخها المعيب في هذا المجال. وقد فرضت قيوداً صارمة على هجرة مواطني هونغ كونغ الصينيين بعد فترة قصيرة من وصول والدي عام 1960، حين كان الإقليم لا يزال مستعمرة بشكل كامل. وأوضح قانون مهاجري دول الكومنولث الصادر سنة 1962، الذي طرحه المحافظون، أنّ الرعايا البريطانيين غير متساوين من حيث حقوق الإقامة. وبعد إدانته للقانون في البداية، سرعان ما غيّر حزب العمّال رأيه وطرح بنفسه قيوداً إضافية على هجرة مواطني دول الكومنولث حين استلم السلطة.
وكان الآتي أسوأ. وخلال العقد الذي سبق انتقال سيادة هونغ كونغ إلى الصين، تعالت مطالبات بإعطاء مواطني هونغ كونغ الصينيين حقوق الإقامة كاملة في المملكة المتحدة. في المقابل، رضخت رئيسة الوزارء السابقة مارغريت تاتشر في 1989 لضغوط الشقّ اليميني في حزب المحافظين، ورفضت منحهم (مواطني هونغ كونغ) هذا الحق. كذلك هاجم رئيس حزب المحافظين نورمان تيبيت، الاقتراحات الحكومية بإعطاء 50 ألف مواطن صيني من هونغ كونغ وأسرهم حقّ الإقامة في بريطانيا.
على الرغم من ذلك، لم يكن وضع “المواطنين البريطانيين في الخارج” الذي حصل عليه في الأخير كل مواطن صيني من هونغ كونغ سجّل اسمه قبل 1997، سوى بديلاً سيئاً للجنسية الكاملة لأنه لم يكفل حق السكن في المملكة المتحدة. بالتالي تدلي حكومة جلالة الملكة بجزرة الإقامة في وقت متأخّر نسبياً بالنسبة إلى مواطني هونغ كونغ الصينيين.
ومع ذلك، من الفظاظة ألّا نرحّب باقتراح تحسين وضع “المواطنين البريطانيين في الخارج” (يبلغ عدد حملة هذه الوثيقة 350 ألفاً في الوقت الحالي، لكن التقديرات تشير إلى أنّ 2.9 مليون شخص قد يتمكّنون من المطالبة بها)، لا سيّما أنّ هذا أحد المطالب التي رفعها الناشطون المنادون بالديمقراطية في هونغ كونغ إلى لندن.
من جهة أخرى، من المهم الاعتراف بمحدوديّة هذه الاستراتيجية، سواء كطريقة للضغط على بكين كي تحترم دستور هونغ كونغ أو كوسيلة لحماية حريات سكان الإقليم.
وحاضراً، يبلغ عدد سكان هونغ كونغ حوالى سبعة ملايين شخص. وبالنسبة إلى غالبيتهم، حتّى إن وفت المملكة المتحدة وعدها بتحسين وضع “مواطنين بريطانيين في الخارج”، من غير المتوقع أن تكون الهجرة باباً عملياً للفرار، إذ وُلِدَ عدد كبير من المتظاهرين الذين نادوا بالديمقراطية في شوارع تلك الجزيرة العام الماضي، بعد 1997 وهم بالتالي أصغر من أن يكونوا مؤهلين لها.
باختصار، إن الوضع في هونغ كونغ من أسوأ ما يكون، إذ يتزايد قمع النظام الاستبدادي في بكين تجاه الداخل، ويزيد حسماً تجاه هونغ كونغ وفق ما تبدّى في قانون الأمن القومي الجديد. وموقف البيت الأبيض من الصين في ظل ترمب غير ثابت، بينما أصبح الحليف البريطاني غير موثوق بدرجة كبيرة كذلك.
واستطراداً، اتّجه بعض مواطني هونغ كونغ من الشباب إلى العنف العدميّ، كأنهم يدفعون الصين إلى قمعهم. والآن، تضاءل النفوذ العالمي للمملكة المتحدة في الحقل الدبلوماسي بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
من جهة مغايرة، مهما كانت التطلّعات المستقبلية قاتمة، سيُعتبر تخلّي بريطانيا عن حماية حريات هونغ كونغ التي فاوضت عليها في الإعلان الصيني-البريطاني المشترك في 1984، بمثابة خيانة. وربّما يتمثّل الأمل الأفضل في مزيج من الحزم الدبلوماسي تجاه بكين ومخاطبة جانب المصلحة الاقتصادية الذاتية لدى النظام.
ثمة أموال واستثمارات عدّة تتدفّق من وإلى برّ الصين الرئيس عبر هونغ كونغ. وإذا حصل أن خسرت هونغ كونغ وضعها في نظر المستثمرين كإقليم يحكمه القانون، سيلحق الأذى بالاقتصاد الصيني والمصالح المالية لشخصيات النظام الشيوعي.
إذاً، ربّما لم يضِع كل شيء بعد. فقد برهنت بكين عن ضبط نفس أكبر من المتوقّع في مواجهة حركة التظاهر العنيفة في هونغ كونغ العام الماضي. ويشير ذلك إلى بعض التقدير في الدوائر العليا للحزب الشيوعي لقيمة هونغ كونغ ضمن وضعها الحالي كـ”نظام” اقتصادي وقضائي منفصل عن البر الرئيس للصين.
كذلك ربّما لا يكفي هذا، وتبقى هونغ كونغ كما عهدناها، تموت فعلياً أمام أعيننا. والجوّ الذي يخيّم على عائلتي وأصدقائي، تسوده الحتمية والإذعان للقدر. إلّا أنّ ذلك المستقبل ليس محتوماً. ولدى المملكة المتحدة مسؤولية تاريخية بالغة تجاه سكّان هونغ كونغ، تتمثّل في مسؤولية عدم التخلّي عنهم أبداً.
* بن تشو صاحب كتاب “همسات صينية: لماذا كل ما سمعتموه عن الصين خاطئ”
نفلا” عن أندبندنت