بُثّت الحياة من جديد في الاستعارات الفاشية التي صعدت بين الحربين العالميتين والحدّ الفاصل بين الليبرالية واللاليبرالية بدأ يتلاشى
إيفان سميث
في خضمّ الاضطرابات المناهضة لوحشيّة الشرطة التي عمّت الولايات المتحدة، حمّل كثيرون اليمين السياسي “أنتيفا” مسؤولية الإخلال بالنظام العام. وأعلن دونالد ترمب عبر تويتر نيّته إصدار قرار تنفيذي يصنّف أنتيفا على أنها منظّمة إرهابية.
وأشار عدد من الناس إلى غياب الآلية القانونية التي تسمح لترمب بفعل هذا (هناك قائمة للمنظمات الإرهابية الأجنبية، لكن لا وجود لقائمة من هذا النوع في ما يخصّ المجموعات الموجودة داخل الولايات المتحدة). كما أنّ أنتيفا في الحقيقة ليست منظّمة، بل تسمية تُستخدم لوصف المقاومة المناهضة للفاشية. ومع ذلك، اعتبر ترمب أنتيفا منظمة إرهابية في العام 2019 ووضع الجمهوريون ضغوطاً على أجهزة تطبيق القانون كي تتعامل مع أنتيفا على هذا الأساس.
وردّدت شخصيات من اليمين المتطرّف في أنحاء الدول الناطقة بالإنجليزية كافة وصف ترمب أنتيفا على أنّها منظمة إرهابية، فأعلن مرشّح حزب المحافظين في كندا ديريك سلون على تويتر أنه سيصنّف أنتيفا جهة إرهابية في حال انتخابه رئيساً للوزراء. وفي المملكة المتحدة، قال نايجل فاراج من حزب بريكست هذا الأسبوع إنه صنّف أنتيفا ضمن خانة “الإرهاب المحلي” لأول مرّة في العام 2017.
يستند هذا الخطاب إلى محاولات اليمين توصيف مجموعة واسعة من التحرّكات الاجتماعية والاحتجاجية على أنها متطرّفة، وربّما حتّى أقرب إلى الإرهاب. خلال العام الماضي، دافعت وزيرة الداخلية البريطانية، بريتي باتيل، عن قرار أوّلي اتّخذته شرطة مكافحة الإرهاب بإدراج حركة تمرّد ضدّ الانقراض الناشطة في مجال المناخ، ضمن تقرير يتناول العقائد المتطرفة. وخارج المملكة المتحدة، جمع وزير الداخلية الأسترالي بيتر داتون الإرهاب الإسلامي بالتوجّه السياسي اليساري ليندّد علناً بالخطر الأمني الذي قد يشكّله “مجانين اليسار” في فبراير (شباط) الماضي.
ويُعدّ الإرهاب اليساري خطراً محتملاً في أميركا الشمالية وأوروبا منذ سبعينيات القرن الماضي، أي المدة التي نشطت خلالها منظمة الطقس تحت الأرض وفصائل الجيش الأحمر والألوية الحمراء. لكن هذا التهديد تحديداً غير موجود اليوم، مع أنّ بعض المعلّقين والسياسيين حاولوا أن يلوّحوا بشبح اليسار البديل المتطرف (alt left) واليسار المتحكّم (ctrl left) مقابل اليمين البديل المتطرف (alt right).
وليس توصيف التصدّي للفاشية على أنه إرهاب بالأمر الجديد. بل شكّل ركناً من أركان الخطاب الفاشي في ثلاثينيات القرن الماضي. واعتاد اتّحاد الفاشيين البريطاني التابع لأوزوالد موزلي أن يشير إلى التحركات المناهضة للفاشية دورياً على أنّها “إرهاب أحمر” فيما كان يقدّم نفسه على أنّه المدافع عن حريّة التعبير. وأعلن أحد أعداد صحيفة القمصان السود التابعة للاتّحاد الذي صدر في العام 1936 أنّ “العنف الأحمر المنظّم قد أُزيل” على يد رجال موزلي. كما أعلن عدد ثانٍ صدر في السنة نفسها أنّه “في غضون سنتين، انتصرت روح القمصان السود. خلال سنتين فقط، فقَدَ الإرهاب الأحمر والعصابات التابعة له المستوحاة من اليهود والروس سطوتهم على شرق لندن، فظفرت الفاشيّة بحريّة الشوارع”.
ولا يعزو هذا المقطع العنف إلى الإرهاب الأحمر وأعمال التخريب والشغب فحسب، بل يسلّط الضوء كذلك على تاريخٍ من إلقاء اللائمة على القوى الخارجية بسبب الاضطرابات الداخلية وعلى نظرية المؤامرة المعادية للسامية التي تتهم اليهود بالتلاعب بالمتظاهرين (وهما فرضيتان ظهرتا على شبكة الإنترنت في سياق وصف أعمال الشغب التي تجري اليوم في الولايات المتحدة).
وفيما كانت مناهضة الشيوعية منتشرة في بريطانيا خلال تلك المرحلة، تصاعد الخوف من نطاق استخدام هذه التعابير الفاشية. وعبّر بعض السياسيين أمثال النائب الليبرالي روبرت بيرنايز داخل البرلمان عن مخاوفهم من استخدام موزلي هذا التعبير من أجل وصف النشاطات المعادية للفاشية، فيما أشار زميله في الحزب آيزاك فوت في العام 1934 إلى أنّ الصحافة النازيّة في برلين استعارت بدورها توصيف موزلي لمعاداة الفاشية على أنّه شكل من “الإرهاب الأحمر”.
كما ظهرت الحجّة التي كرّرها اليمين في أنّ اليسار يشكل خطراً على حرية التعبير وأنه يجب السعي إلى حماية حرية التعبير كذلك ضمن الخطاب الفاشي خلال المدة الفاصلة بين الحربين العالميتين. وفي هذا السياق، كتب المستشار الخاص لوزير التربية والتعليم إيان مانسفيلد مؤخراً عن “الطغيان في كم الأفواه وقمع حرية التعبير” فيما يناشد توبي يونغ، الصحافي في مجلّة “سبكتايتور” قائلاً إنّ حرية التعبير “حالياً بخطر أكبر من أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية”. في العام 1933، كتبت صحيفة القمصان السود “وصلنا إلى مرحلة في هذه البلاد أصبحت حرية التعبير معها أمراً بائداً”، زاعمةً أنّ الإرهابيين يقدمون على إغلاق الفعاليات التي لا يوافقون عليها
في العام 2019، قال نايجل فاراج أمام فعالية استضافتها مؤسسة يونغ أميركا “بصراحة، إنّ الفاشية الحقيقية هذه الأيام، وعدم التسامح ليسا عند ماتيو سالفيني أو دونالد ترمب، بل من يقفون على اليسار هم الذين يريدون أن يغرقوا صوت الجانب الثاني، ومن يحاولون فعلياً في حرم جامعات كهذه في كل أنحاء أميركا والمملكة المتحدة، أن يمنعوا المتحدثين الذين لا يؤيدون أفكارهم من اعتلاء المنابر. هذه هي الفاشية الحديثة الحقيقية، محاولة منع التعبير الحرّ”.
هذا ما وصفه أوريليان موندون وآرون ونتر على أنه تحويل الأفكار اليمينية المتطرفة إلى أمر سائد. بُثّت الحياة من جديد في الاستعارات الفاشية التي تعود إلى سنوات ما بين الحربين العالميتين كما أعيدت صياغتها منذ ذلك الوقت لكن الحدّ الفاصل بين الليبرالية واللاليبرالية بدأ يتبدد.
ومع التقدم الظاهر الذي يحرزه اليمين المتطرف خلال مرحلة يمرّ فيها العالم أجمع بأزمة، تصبح محاولة اليمين تصوير أي معاداة له على أنها إما إرهاب أو “خطر يهدّد حرياتنا” لازمة تتكرر بشكل متزايد، ولم تعد وجهة نظر محصورة بالمتطرّفين فقط. ولهذا فمن المهم الإقرار بأصول هذه النقاط التي يثيرها اليمين الحديث في خطابه، من أجل التصدّي لصعود اليمين المتطرّف بينما يسعى إلى استغلال الوضع الحالي لصالحه.
( إيفان سميث زميل أبحاث في جامعة فلندرز في جنوب أستراليا. وأصدر مؤخراً كتاب “لا منبر: تاريخ معاداة الفاشية والجامعات وحدود حريّة التعبير” من دار روتليدج للنشر، 2020)
نقلا” عن أندبندنت عربية