كتب : حمود محمد (الحبشي)
دخلنا في حوار مفتوح مع السلطة وكنت مسؤولا عن الحوار من طرف الجبهة الوطنية فى ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد تمثلت بحوارات بين النظامين فى صنعاء وعدن لحل مشاكل وقضايا الصراع السياسي فى الشطرين بما في ذلك الصراع الدائر في الشمال بين الجبهة الوطنية والسلطة.
كان اتفاق تعز العام 1982 بين الرئيسين علي ناصر محمد وعلي عبدالله صالح واضحا فى ضرورة اخراج البلاد من حالة الحرب إلى حالة الاستقرار عبر الحوار وحل كل المشاكل العالقة بهذا الصراع مبنية على اتفاقات الكويت التي شاركت فيها الجبهة الوطنية على اثر حرب 1979م بين النظامين.
لذلك دخلنا في حوارات مع السلطة ابتدأت في المنطقة ” شرعب والعدين ” ثم في تعز وصنعاء كان الهدف والتوجه واضحين وهو التسليم بواقع السلطة وبسط نفوذها على كافة المناطق والقضاء على المظاهر العسكرية في المنطقة وحل مشاكل المشردين واعادتهم إلى قراهم ومنازلهم من الطرفين وايقاف المطاردات والملاحقات الأمنية وإطلاق المعتقلين وحل مشكلة افراد الجبهة عبر استيعابهم فى معسكرات الدولة .
جميع تلك المحاور والقضايا وضعت على مائدة الحوار دفعة واحدة بين الطرفين المشكلة التي واجهتنا أن طرف السلطة لم يكن موحدا ولم يكن بأطرافه على قناعة ان الحوار هدف نهائي وليس تكتيكي .
كانت خارطة الحوار محددة ومتفق عليها بين الطرفين ، نختلف ونتفق حول الأولويات ، بدأنا وسط مخاوف امنية وسياسية عدة وفي وضع معقد بسبب تداخلات كثيرة ولكوننا نتحدث عن تاريخ لابد من ايراد بعضها لأن التاريخ ملكا للجميع وعلينا الاستفادة منه .
كانت توجيهات قيادة الحزب حازمة بأن لا حل سوى المضي بالحوار وتمكين السلطة من اعادة بسط سلطاتها على كل اراضيها لا ضمانات أمنية لسلامة المحاورين سوى اتفاق شرف بين الرئيسين ردا على برقية بعثتها للقيادة حول الضمانات تلقيت ردا عليها من القيادة ممثلة بالرفيق الراحل احمد علي السلامي( الضمانة لسلامة المحاورين هي مرونتكم ).
طبعا كان احساسنا ينبع من واقع وليس طوباويا ان هناك اتفاقا بين الرئيسين ناصر وصالح على تصفية الجبهة الوطنية ، وكان الخط السائد فى قيادة الحزب حينها (رئاسة علي ناصر ) يسير في هذا الاتجاه ان السلطة في صنعاء ليست موحدة اذ هناك سلطة رسمية وسلطة في الظل نشأة في ظل الصراع السياسي واستفادة منه في بناء مليشيات ووحدات عسكرية كاملة لحاجة النظام لذلك ومصالح اقتصادية وميزانيات ضخمة ،كل ذلك ستفقده فى ظل الحوار وتحقيق السلام والأمن والاستقرار.
هذه الشبكة من المصالح والنفوذ أستمرت بالمواجهات المسلحة، واشعال المنطقة بحروب اثناء الحوار نفسه وجلساته منعقدة للضغط علينا للانسحاب واعلان فشل الحوار .
كان هناك اتجاه عقلاني معتدل فى السلطة يرى في تنامي نفوذ الاخوان المسلمون خطرا” وعائقا امام بناء دولة والنظام ، هذا الاتجاه كان مع الحوار وانهاء الصراعات المسلحة والقضاء على اي مليشيات خارج الدولة الا أنه كان اتجاها ضعيفا لا يمتلك نسبة كافية للتأثير على القرار السياسي .
وبالمقابل كانت هناك قيادات حزبية استوعبت اللحظة وواقع الضرورة السياسية وتوجيهات قيادة الحزب ومع تنفيذها ، وقيادات اخرى وقواعد لم تستوعب متحفظة، هي مع الحوار ولكن بتحفظ وشروط مبررة بالمخاوف والممارسات على الأرض .
وسط هذه الجدران الشائكة كان لابد من اتخاذ القرار ، وبكل شجاعة واقتدار وقفنا مع الحوار وضرورة تنفيذ توجيهات الحزب والمضي فيه رغم قناعتي وقناعة كل الرفاق ان نظام صنعاء لا يمكن ان يكون مسالما وجادا في الالتزام باي اتفاقات لماذا ؟ لأن هذه طبيعته وتركيبته ولما أشرت اليه أنفا من تنازع فى التأثير على القرار السياسي مثالا على ذلك .
في اللحظة التي تم فيها التوقيع على اتفاق تعز من قبل الرئيسين وهما يسهران في فندق دار النصر يشاهدان تحرك لواء المجد في الرونة وشن هجوم على مواقع الجبهة الوطنية في جبل رهيد والذي مني فيه لواء المجد في تلك الليلة بهزيمة فادحة وخسارة كبيرة بالارواح والعتاد وتم اغتنام كمية كبيرة من الاسلحة الثقيلة والخفيفة والمتوسطة وهذا السلوك قدم لنا مثالا على كيفية فهم نظام صنعاء الاتفاقات ( رهيد هذا تم فيما بعد تسليمه من قبلنا بالحوار بل وتسليم كل أسلحة المجد التي تم الاستيلاء عليها تلك الليلة) .
مضينا فى الحوارات وحققنا خطوات كبيرة تمثلت :-
1- فتح الطرقات وازالة الموانع والالغام وعودة الدولة بسلطاتها الى كل المنطقة
2- ازالة المظاهر العسكرية وتسليم المواقع العسكرية التي كانت مع الجبهة واشرفت على ذلك شخصيا مع من يمثل النظام
3- اعادة المشردين من مناطق الجبهة فى الصنع والامجود فى موكب رسمي
4- تسليم اسلحة وأليات تم الاستيلاء عليها فى معارك مع الجيش قمت بتسليمها شخصيا” عن قناعة بايماننا بالحوار .
كما اشرت سابقا اننا نتكلم عن تاريخ ومن اجله اشير الى ان كل تلك الخطوات من جانب الجبهة تمت ولم يتم من الطرف السلطة اي خطوات مماثلة .
لم يتم السماح للمشردين من مناطق سيطرت النظام بالعودة إلى منازلهم وقراهم ومن تجرأ على العودة تم اعتقاله من قبل مجاميع محسوبة على السلطة .
لم يتم الافراج عن المعتقلين من ابناء المنطقة بتهمة التعاون مع الجبهة .
لم يتم ازالة المظاهر المسلحة لدى الجماعات المتعاونة مع النظام استمرت هذه الجماعات في تفجير معارك انتقامية وثأرية هنا وهناك والحوار قائم بما في ذلك اقتحامها لقرى الأكروف وما حولها.
كل ذلك استمر لا جبارنا على مغادرة الحوار وافشاله رغم ذلك استمرينا وبإصرار يؤمن بالنهج السلمي للمرحلة بنفس المستوى من الثقة بسلامة اختيارنا .
وهناك واقعة حصلت معنا اثناء تواجدنا فى تعز لاجل الاستمرار في الحوار ، كان هناك من يسرني من أعضاء اللجنة ممثلي السلطة، في أذني ناصحا انسحب من المدينة اخرج المنطقة هناك خطة لاغتيالك ورفاقك ، سوف تعتقل ولا نستطيع مخارجتك ، وهي نصيحة صادقة فعلا .
لكننا اصرينا على البقاء واستمرار في الحوار بمصداقية ولا نريد أن نتحمل مسؤولية فشله.
كان طرف السلطة فى الحوار رؤساء اجهزتها في تعز وهم :
1- محمد ضيف الله قائد اللواء الله يرحمه
2- حسين خيران قائد الشرطة العسكرية
3- احمد الانسي مدير الامن ( الوطني ) في تعز
وكان يشارك فى بعض الجلسات المحافظ محسن اليوسفي ومدير ادارة الامن احمد الحلالي .
أشير إلى أننا فى أولى اللقاءات طلبنا مشاركة بعض أعوان السلطة من أبناء المنطقة فى الحوارات الدائرة ، وتم رفض الطلب تحت مبرر أن لا صفة رسمية لهم وانتم تتحاورون مع دولة وليس مع جماعات وعلى اثر ذلك تم حجزي في تعز اقامة اجبارية ممنوع مغادرتها لمدة أسبوعين من قبل أحد أطراف السلطة ( الطرف الأقوى) يريد استمرار الحوار معه فقط .
ورغم ذلك كان الرفض قاطعا لأي تهرب او هروب من المدينة كان الحزب في قيادته يعيش وضعا مربكا في ظل بوادر لصراعات بين أقطاب وكان وضعنا في الشمال محرجا ، لذلك كانت قيادة الحزب تضغط باتجاه الحرص على استمرار الحوار مهما كانت التضحيات ، ولغباء النظام في صنعاء لم يلتقط هذا المؤشر ليصنع وحدة وطنية وسلما اجتماعيا .
كنا امام استحقاقات اخيرة متمثلة بتنفيذ القرار السياسي بتجنيد شباب المنطقة من الجبهة فى معسكرات خاصة وهي خطوة تم تنفيذها في كل المناطق التي شهدت صراعا سياسيا فى المناطق الوسطى وعتمة وريمة ووصابين اضافة الى تسليم الاسلحة الثقيلة لدى الجبهة هاتان الخطوتان يبدو لي هما من قصمة ظهر البعير لان تنفيذهما ستهتز له مصالح وعروش من الميزانيات والاعتمادات بفقدان مبرر استمرارها .
نجحتا في كل مناطق الصراع وسقطت في شرعب أتفقنا على تسليم الأسلحة الثقيلة للدولة وتحدد موعد ذلك تم استدعائي الى مبنى الامن الوطني باتصال تلفوني ، في 17يناير 1983م ، أي فى اليوم السابق لموعد خروجي الى المنطقة مع الأخ قائد الشرطة العسكرية حسين خيران لتنفيذ الاتفاق باستلام الأسلحة الثقيلة وتسليمها الى الدولة من خلال موكب جماهيري من الجبهويين والمواطنين الى تعز ليعلن بذلك وفي مهرجان جماهيري اتفقنا عليه في ميدان الشهداء يعلن فيه انتهاء المظاهر المسلحة والتسليم بواقع الدولة ،وانتهاء الصراعات المسلحة لإسقاط أي دعاوى مستفيدة من استمرار الصراع .
ذهبت وقابلت المدير احمد الانسي وكان من المعارضين لخطوة التسليم العلني وسبق أن طلب مني التسليم عبره اي عبر الجهاز لأفاجأ بأنني معتقل لأتجرع مرارة السجن لمدة عامين لا لشيئ الا أننا مددنا ايادينا للسلام واخراج الوطن من دوامة الصراعات.
وتم اقتحام المنطقة بحملات عسكرية مدمرة تلبية لرغبة تلك القوى التي لاتحيا الا على الصراعات والدماء.
13يونيو 2020 م