سياسة أنقرة الحالية في الشأن الليبي يرسمها جنرالات يوالون روسيا ومنظمة “إرغينكون”
تورغوت اوغلو
كم كنت أتمنّى أن أصحو على خبر عاجل مفاده: “أعلنت السعودية ومصر والإمارات وتركيا أنها وافقت على خريطة طريق لإنهاء الأزمة في ليبيا”. وأؤكد أنه ما لم تتوصّل هذه المجموعة في ما بينها إلى تشكيل تحالف في الشرق الأوسط، فإنّ مصير هذه المنطقة سيكون دائماً في أيدي الآخرين، يتلاعبون به كما يشاؤون.
أمّا إمكانية تحقق هذا في ظل وجود أردوغان فهو أمرٌ آخر. وبالنسبة إلى مذكرة التفاهم التي وقّعتها أنقرة مع حكومة السراج بشأن تحديد “مجالات الصلاحية البحرية” بالبحر المتوسط فتلك قضية واسعة، تحتاج إلى مقال على الأقل لتناولها.
وعلينا أن نواجه الحقيقة المُرَّة التي تواجهنا في الساحة الليبية، إذ إن تغيّر موازين القوى في ليبيا خلال الأيام الأخيرة أعاد إلى الواجهة النقاش حول مستقبل هذا البلد الذي يحظى بأهمية جيواستراتيجية في القارة الأفريقية.
وعلى الرغم من تقهقر قوات حفتر فإن التوتر لا يزال قائماً، كما أن المبادرة الأخيرة حول إحلال السلام، حتى وإن كانت ضئيلة، خُطوة مهمة باتجاه تحقيق الأمن والوئام. إذ اجتمع قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر في القاهرة مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح بوساطة مصرية، وانبثق “إعلان القاهرة”.
وتدعو المبادرة إلى “احترام كل الجهود والمبادرات الدولية والأممية من خلال وقف إطلاق النار، اعتباراً من الثامن من يونيو (حزيران) 2020″، بالتالي فإن بدء مفاوضات السلام مع الحكومة الليبية، التي تعترف بها الأمم المتحدة، سيريح المواطنين في البلاد إلى حدّ ما.
ويدعو المقترح الذي قدّمه عقيلة صالح إلى تشكيل لجنة من المتخصصين والمثقفين، لإعداد دستور جديد يمهّد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية، كما أنه ينصّ على تشكيل مجلس رئاسي ليبي، يترأسه رئيس حكومة الوفاق الوطني الحالي فايز السراج، ويضمن تمثيل الأقاليم الليبية الثلاثة. ويُلزِم المقترح جميع الأطراف الأجنبية إخراج المرتزقة الأجانب الملتحقين بمختلف الأطراف الليبية وتفكيك الميليشيات.
خطوط حمراء وعلامات
ربما كانت هذه هي الخطوة التي كان يجب اتخاذها منذ البداية. ويجب على جميع الأطراف تخفيف خطوطها الحمراء، والتضحية ببعض مواقفها، حتى يمكن المُضي قدماً في هذا الاتجاه. وإذا لم يُتوصّل إلى وقف إطلاق النار من خلال هذه المبادرة أو غيرها فلا محالة أن ليبيا ستوشك على الانقسام.
وتعالوا بنا نلقي نظرة على بعض العلامات التي تجعلنا نستشف منها ما ينذر بذلك. فبعد أن جرى التصريح بـ”إعلان القاهرة” الداعي إلى وقف إطلاق النار كان رد فعل أنقرة على ذلك مثيراً الاهتمام. إذ إنها بدلاً من أن ترحّب بذلك صرّحت على لسان وزير خارجيتها بأن هذه المبادرة “ولدت ميتة”.
وبطبيعة الحال، أدّى هذا الموقف المتسارع السلبي ببعض المراقبين إلى التفكير بأن تركيا “لا تريد السلام”، بل “تهدُف إلى تقسيم ليبيا”. وبالفعل، نلاحظ أن النشاطات العسكرية التي تقوم بها تركيا في ليبيا تفتح المجال أمام دول أخرى، وتعطيها الذرائع للدخول على الخط بطريقة مباشرة.
ودَعُوني أكون أكثر صراحة: إنّ كل خطوة تقوم بها أنقرة في ليبيا تُقدِّم، بالفعل، مزايا وذرائع لروسيا، وتفتح لها مجالاً أوسع لتتحرّك سواء في ليبيا أو في البحر الأبيض المتوسط. وعشنا هذه التجربة في سوريا سابقاً، إذ إن الحرب فيها أضفت مزيداً من الشرعية على الوجود الروسي بالأراضي السورية، بالتالي جعلتها ذات حضور قوي في البحر الأبيض المتوسط أيضاً.
وفي ليبيا أيضاً حصلت روسيا على رخصة التنقيب عن النفط في المناطق التي يسيطر عليها حفتر بشرقي ليبيا. وذلك يشير إلى أنها تطمح إلى وجود بعيد المدى في هذه المنطقة. لهذا السبب، أعتقد أن روسيا بدلاً من أن تحفِّز حفتر للتحرّك إلى غربي البلاد تفضِّل أن يحافظ على وضعه الحالي بالمناطق التي يسيطر عليها. وأحسن وسيلة للحفاظ على هذه المعادلة هو رجب طيب أردوغان.
موسكو تستخدم أردوغان
ومهما بدا وكأنّ أنقرة وموسكو على طرفي نقيض في ليبيا، فإنّ الحقيقة هي أن روسيا تستخدم أردوغان كحصان طروادة. لأن مواصلة تركيا وجودها في ليبيا بصفتها تحارب خليفة حفتر تعطي الفرصة لروسيا هي أيضاً أن تظل في ليبيا مدى أطول. فكلما ضاقت الأرض بحفتر سيبقى مضطراً إلى أن يُلقِي بنفسه في أحضان روسيا.
نعم، إنّ الوجود التركي من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم ليبيا، لكن هذا الانقسام سيخدم في نهاية المطاف روسيا أكثر من أي طرف آخر. فعلى الرغم من أن حكومة السراج حققت انتصاراً نسبياً بدعم من أنقرة فإنه من الصعب جدّاً أن تسيطر على البلاد بأكملها.
إن حكومة حزب العدالة والتنمية التي خابت آمالها في سوريا، تبدو كأنها لا تستشرف عواقب عملياتها التي تخوضها في ليبيا بالتعاون مع المنظمات الإرهابية التي جمعتها من هنا وهناك. لكن، الحقيقة هي أن أنقرة التي فقدت بوصلتها، وعجزت عن تحديد استراتيجيتها في السياسة الخارجية، لم تُسهم في ليبيا أيضاً إلا في صبّ الزيت على النار.
لا رؤية عقلانية
وذكرتُ، في مقال قبل أسبوعين، أن السبب الحقيقي الذي يجبر الرئيس أردوغان على أن يخوض الحرب في ليبيا هو الحفاظ على مصالحه الشخصية والعائلية في هذا البلد. وأعود لأؤكد أن مصالحه الشخصية لا تتطابق مع مصالح الدولة التركية.
ومع الأسف الشديد، أرى أنه لا توجد رؤية سياسية عقلانية لدى تركيا، ويعلم الجميع أن سياسة أنقرة الحالية بشأن ليبيا تُوضع من قِبل الجنرالات المعروفين بموالاتهم المنظمة المعروفة باسم “إرغينكون” والموالين روسيا كذلك. كما أن قيادة الجنود الأتراك الناشطين في الساحة الليبية هي أيضاً في أيدي الضباط المحسوبين على هذه المنظمة. إذ إن هؤلاء الضباط سبق أن حوكموا في إطار قضية إرغينكون، وحُكِم على معظمهم بالسجن، أو اُتهموا بموالاة هذه المنظمة.
الذي يهم حكومة حزب العدالة والتنمية هو أن تحصل على مادة سياسية تشغل بها الرأي العام، وترصّ بها صفوف الناخبين من حولها. فهي تتصرّف من منطلق المصلحة الحزبية بل العائلية الضيقة. أردوغان ينظر إلى الأمر من منظور التجارة والأرباح، ولذلك يريد الحرب، ويستحدث الأزمات، ويفتعل الاضطرابات، ويُسهم في تقسيم ليبيا.
ومن أجل إجهاض هذه الخطوات الخطيرة التي اتخذها أردوغان ينبغي أولاً إقناع حكومة السراج بالجلوس على طاولة المفاوضات التي تشمل جميع الأطراف. وثانياً، وأظن أن هناك كثيراً ممن سيمتعضون من مقولتي هذه، لكن أرجوكم اعتبروها نصيحة من صديق إلى صديق: إني لست واثقاً بسهولة الوصول إلى إنقاذ ليبيا من مأزقها عن طريق خليفة حفتر الذي لا يتمتع بسمعة طيبة على مستوى الرأي العام الدولي. وذلك يصبّ في مصلحة أردوغان الذي لا يتوانى عن استغلال هذه النقطة على الصعيد الدولي.
وتوجد قاعدة استراتيجية حربية عالمية تقول: بدلاً من أن تقابل كل صفعة من خصمك بصفعة، فالأحرى بك أن تُحبط الصفعة التي تأتيك منه، وإني على دراية بصعوبة هذه الخطوة، لكن ذلك ليس من قبيل المستحيلات
نقلا” عن أندبندنت عربية