كان بعمقه الفكري ونظرته العلمية متخطياً حدود عصره
عماد الدين الجبوري
كانت أفكار ولي الدين ابن خلدون (1332-1406) ونظرياته، أقرب إلى مفاهيم العصر الحديث، من زمنه بشكل عام.
ولذلك، استمر اهتمام الباحثين والدارسين لنتاجاته الفكرية والفلسفية ليس من منظور تُراثي تقييمي فقط، بل من مبدأ علمي له صلة بمجريات الأحداث والوقائع الحياتية والاجتماعية والسياسية، التي لم تظهر جراء أسباب داخلية بحتة، وإنّما مرتبطة بمسبّبات خارجية أدت إلى حدوثها ووقوعها.
إن هدف ابن خلدون من إدخال قانون السببية في بحوث التاريخ، لإثبات أنه علم من بين العلوم وظاهرة من بين الظواهر الطبيعية، التي تقوم على أُسس الحقائق الواقعية في المشاهدة والتجربة وقوة الملاحظة، وما يتبع ذلك من أقيسة يقينية في العالم المحسوس.
ومن هنا، ركّز ابن خلدون على دور العقل والحواس ضمن نطاق التجربة وتمحيص الحقائق واستقراء الحوادث، أما غيرها من البحوث الذهنية في الماورائيات والمنطق فهي تجريدية بعيدة من إقامة البراهين عليها في الواقع المادي، وبذلك لا يمكن أن تفيد وتخدم العلوم الطبيعية.
كان موقف ابن خلدون واضحاً منذ البدء، إذ تميّز بنزعة تجريبية جلية في نهجه ومنهجه العلمي في التاريخ وفي علم العمران (علم الاجتماع) على حدٍ سواء.
وعندما أبعد التجريدات من الفحص والملاحظة، لأن طبيعتها مبنية على تصوّرات نتائجها المعرفية غير طبيعة الواقع العياني المحسوس.
فعلى سبيل المثال، من الوهم الاعتقاد أن الأقيسة المنطقية كفيلة بمعرفة حقائق الأشياء الطبيعية، التي تخضع للتجربة الحسية. فالمنطق يُنظم المعرفة لا يصنعها.
وهكذا أراد ابن خلدون أن يُبلط الطريق بأُسس معرفية توصلنا إلى أحكام يقينية، يمكن الوثوق فيها والاعتماد عليها. فالعقل والحواس والخبرة الشخصية وتمحيص الحقائق الجزئية وفهم الواقعات واستقراء الحوادث تجاه الأشياء الطبيعية، كلها تؤدي بنا إلى استخراج نتائج يقينية.
التنبؤ العلمي بالمستقبل
من بين النظريات التي وضعها ابن خلدون قوله، إن الأحداث والوقائع التي تجري في الزمن الحاضر ولها ما يُماثلها من الأحداث والوقائع التي جرت في الزمن الماضي وفي المكان نفسه، فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها.
فالحوادث، وفق مفهومه، ترتبط مع بعضها بعضاً ارتباط العلة بالمعلول. ولذلك، يؤكد في كتاب “المقدمة” أن استقراء حوادث التاريخ ودراستها تقود إلى معرفة السبب، التي من شأنها أن تساعد على معرفة المسبب، وأن ملامح المستقبل لا بدّ أن تعود إلى أسباب تتفاعل في الزمن الحاضر. وعليه، فإن المستقبل يمكن التنبؤ به على أُسس علمية.
بمعنى آخر، بحسب مفهوم ابن خلدون، عندما نحقق أي خبر أو حدث من أخبار وحوادث تجري في الوقت الحاضر، يجب علينا عرضه على مقياس العقل والبرهان من جهة، ومقارنته مع ما يشابهه من وقائع التاريخ من جهة أخرى. فالظروف المتشابهة ينتج منها وقائع متشابهة أيضاً، وبذلك يكون بمقدورنا معرفة الحاضر بشكل صحيح، وأن المعرفة المتكاملة لا تتم لنا من دون معرفة الحوادث الماضية، إذ نستطيع من خلال هذه العملية النمطية بين الحاضر والماضي أن نستنبط أحوال المستقبل.
يقول ابن خلدون “أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض”.
فالتاريخ له قوانين وسنن يعمل من خلالها في مجرى الحوادث والواقعات، التي أتاحتها عوامل عدة وفق سياق قانون السببية الساري في كافة الأحوال الطبيعية. إذ لكل حادث سبب معقول يرجع إليه حدوثه، فإذا تبيّنت الأسباب فهمت الحادث وأثبَّته، وإلا حقَّ لك أن ترتاب وتبحث.
لذلك، يهتم ابن خلدون في مبدأ “المطابقة” أو المقارنة بين الحاضر والماضي تجاه الأخبار والحوادث، إذ إن استخدام المبدأ المقارن يساعدنا ليس فقط في تحديد صدق وصحة الواقعات، بل كذلك في استشفاف المستقبل وفقاً لنمطية كل واقعة من تلك الوقائع.
كان اهتمام ابن خلدون بالعناصر الزمنية الثلاث: الحاضر والماضي والمستقبل، تشغل مساحة ملحوظة في مجال تفكيره، فلا يكاد يصدر حكماً أو تقييماً تاريخياً أو اجتماعياً، إلا وبانت فيه تلك العناصر من الزمن.
على سبيل الذكر لا الحصر، عن كيفية تجاوز المزلات والمغاليط، في ضرورة قياس “الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب”، تبين مدى تركيزه على عناصر الزمن، الذي بالقدر أن نفهم واقعات الحاضر ونقارنها بما يشابهها من الماضي لكي نستشف أمور المستقبل.
إن النتيجة المنطقية التي توصل إليها ابن خلدون في إمكانية التنبؤ العلمي بالمستقبل، قد شملت أيضاً اهتمامه الخاص بمفهوم الصيرورة، فهي ظاهرة أخرى من ظواهر الطبيعة، التي تستحق البحث والدراسة.
فالتطور التدريجي في الحياة والمجتمع تلعب دوراً مهماً في أحوال الأمم والأجيال. فلكل جيل وضعهُ الذي يتميّز فيه، وأحواله وعوائده التي لا تبقى على طريقة واحدة، بل تختلف باختلاف الزمان والمكان.
وفي هذا الخصوص، يقول ابن خلدون “ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام. وهو داء دويٌّ شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له الآحاد من أهل الحقيقة. وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول. سُّنة الله قد خلت في عباده”.
ما طرحه المؤرخ الشهير آنفاً، يعني أنه مع فكرة عملية التطور والتقدم الحاصلة في التاريخ، بل هو أول الداعين اليها، إذ لم يسبقه أحد من المؤرخين السابقين.
كان ابن خلدون بعمقه الفكري ونظرته العلمية متخطياً حدود عصره وزمانه، لا سيما أن حضارة العرب الإسلامية أخذ نجمها بالأفل. لذلك تجد بعد عصر النهضة، بدأت أوروبا تنضج نسبياً في العلم والمعرفة، وكلما حققت تقدماً يتضح أكثر صحة مفاهيم وأفكار ابن خلدون في التاريخ.
ابن خلدون والاستشراق
وعلى الرغم من أن الأوروبيين قد انتبهوا إلى أهمية ابن خلدون منذ أواخر القرن السابع عشر، لكنهم لم يحصوا على الصورة الكافية عنه، إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
بمعنى أدق، في عام 1697 ظهر في المكتبة الشرقية في باريس أول عمل متكامل عن التاريخ الإسلامي للمستشرق الفرنسي بارثليمي دربلو (1625-1695)، وتناول في كتابه نبذة عن حياة ابن خلدون، ومقتطفات من “المقدمة”.
إلا أن ترجمته لم تكن موفقة لكثرة الأخطاء فيها، ومن ثم صححها مواطنه المستشرق سلفستر دي ساسي (1758-1838) بين الأعوام (1806-1810).
ونشر المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر بوركشتال (1774-1856) رسالته “اضمحلال الإسلام بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة” في عام 1812، مشيراً فيها إلى أهمية أبن خلدون، وأطلق عليه لقب “مونتسيكو العرب”.
وإذا كان دربلو أول أوروبي تحدث عن دور ابن خلدون، فإن المستشرق الفرنسي البارون دي سلان (1801-1879) يُعدّ أول من ترجم “المقدمة” بشكل كامل ودقيق إلى اللغة الفرنسية في عام 1868.
وجاء كبير المؤرخين في القرن العشرين الإنكليزي أرنولد توينبي (1889-1975) ليُبيّن أكثر الأبعاد الخطيرة التي يحتلها ابن خلدون في علم التاريخ، فقد وصفه وكذلك كتابه “المقدمة” قائلاً “بلا شك، أعظم كتاب من نوعه قد أبدعه إنسان في كل زمان ومكان”. (دراسة التاريخ، ج 3، ص 322، طبعة إنجليزية).
وعلى الرغم من تصاعد اهتمام المؤرخين والمثقفين الغربيين بفكر وفلسفة ابن خلدون، لكنه لم يحظ بعد بالمستوى الكافي له، بخاصة من قِبل المشتغلين بمذهب المستقبلية، كون ابن خلدون صاحب السبق الأول بوضع نظرية في المستقبل.
نقلا” عن أندبندنت عربية