تتعرض أمام أعيننا للتشويه والسرقة روح وطنية مشروعة تفخر بالنضال من أجل الحرية في الحرب الأخيرة وتشمل أبناء مستعمرات سابقة
شون أوغرايدي
ينطوي تمثال ونستون تشرشل على مفارقات جد عميقة. فمن ناحية، يمثل رجلاً أراد محو الهتلرية نهائياً من على وجه الأرض. ومن ناحية أخرى، “تدافع عنه” مجموعة من البلطجية الذين يؤدون التحية النازية، أو تحية “كرة القدم” كما يريدوننا أن نصدّق. وتجدر الإشارة إلى ما كتبته كاتي هوبكنز، وهي بمثابة الأم تيريزا لليمين المتشدد، عندما وجّهت نداءً على “تويتر” قالت فيه “إذا دُفع لك لتأدية التحية النازية أمام الكاميرات يوم أمس في لندن، من قبل أي منظمة، أود أن أسمع منك (وسأعوضك عن وقتك)”. حسناً، وأنا أيضاً.
في الواقع، يمكنني أن أصدّق أن إشارات الذراع بالنسبة إلى البعض، كما هي الحال مع غناء النشيد الوطني، وهتافات “En-Ger-Land”، مستمدة من مدرجات ملاعب كرة القدم أكثر من مسيرات نورمبرغ. ففي النهاية، كان “حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني” منزعجاً للغاية إزاء طريقة أداء “تحية هتلر”، لكن لأسباب مفهومة لم تُحدد كيف يجب أن تؤدى لاحقاً تحت تمثال تشرشل، حليف البلاشفة والرمز الفاسد للانحطاط الديمقراطي، كما كان مفترضاً لدى النازيين. ومع ذلك، لا شكّ في أن مشاهد أحداث السبت الماضي تدل على وجود فاشية عنيفة ناشئة.
كان أولئك الفتية في الشوارع لإثارة الشغب، وليس للنقاش حول ماضي بريطانيا ومستقبلها. وعندما لم يتصدَ لهم متظاهرو حركة “حياة السود مهمة،” عمدوا إلى الشجار مع رجال الشرطة ونسائها. ويُظهر فيديو التقطه شاهد عيان ويُتداول على مواقع التواصل الاجتماعي كيف أن المتطرفين اليمنيين دأبوا على استغلال غياب عناصر الشرطة لمهاجمة أشخاص متنزهين في الحديقة ممن احترموا قواعد التباعد الاجتماعي، ربما لما يشكّلونه في نظر المتشددين من تهديد واضح للهوية البريطانية.
ربما كان المتنزهون الشباب اشتراكيين لا تزعجهم الهجرة، أو أنهم يصدّقون ما يشاهدون على قنوات “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي). وفي هذه الحالة، يجب منعهم من التمتع بيومهم، من وجهة نظر الفاشية لقتال الشوارع التي دفعت الرعاع اليميني إلى ركل أطباق الطعام الخاصة بالمتنزهين بقوة.
يقول البعض إن مجموعات مثل “تحالف شباب كرة القدم”، والفئة المنشقة عنه التي تسمي نفسها “التحالف الديمقراطي لشباب كرة القدم”، و”بريطانيا أولاً “وجماعات يمينية متطرفة أخرى شاركت في جمع هذا الحشد الغاضب من خلال استغلال التذمر والغضب لاختراق المستهدفين، وتجنيدهم ونشر التطرف. كان هذا النوع من التكتيك مرتبطاً دائما باليسار المتطرف الذي اتبعه في إطار محاولته استغلال أي تظاهرة لكسب أعضاء جدد هو في أمسّ الحاجة إليهم.
سيكون اختطاف اليمين المتطرف رموز الوحدة الوطنية البريطانية ورموز إنجلترا بالكاد مفاجئاً، وهذا هو العار الأكبر في الموضوع برمته. وكان من هذه الرموز التي سُرقت: علم المملكة المتحدة، وصليب القديس جورج، وفريق كرة القدم (المتنوّع عرقياً)، والنشيد الوطني “فليحفظ الله الملكة”، ونصب السينوتاف التذكاري، وقدامى المحاربين وأيضاً ونستون سبنسر تشرشل. ويُجرى حاليّاً الاستيلاء على جميع هذه الرموز ثقافيّاً من قِبل أُناس يعتقدون أن أدولف هتلر ربما كان على حق. وإذا سمحنا لهذه الرموز بأن تصبح أدوات للعنصرية والقومية والفاشية، فلا عجب إذا تعرّضت للهجوم والحرق من قِبل المناهضين الفاشية. ومع ذلك، فإن أعداء الفاشية هؤلاء يبتلعون الطعم ويقعون في الفخ، وهذا أمر خطير أيضاً.
فأمام أعيننا، تتعرّض للتشويه والسرقة روحٌ وطنية مشروعة تدعو إلى الفخر تجاه الجيل الذي ناضل مع قادته من أجل الحرية في الحرب الأخيرة، بمن فيهم كثير من الأشخاص غير البيض الذين كانوا جزءاً من الإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت.
إنه ليس أمراً جديداً. فعندما كان الفاشيون التابعون لأوزوالد موزلي، في ثلاثينيات القرن الماضي، والجبهة الوطنية في السبعينيات، يُنظّمون مسيرات متعمّدة واستفزازية عبر مناطق يقطنها عدد كبير من المهاجرين، كانوا دائماً يحملون عدداً كبيراً من أعلام المملكة المتحدة، وقد ألصقت بها شعاراتهم.
من ناحية أخرى، كان قادة “الجبهة الوطنية” القدامى من النازيين الجدد المتشددين، لدرجة أنهم كانوا يرتدون الزي الرسمي للميليشيات النازية، ويذهبون معاً في عطلات تخييم، ويتجمّعون حول النار في المساء لمناقشة كتاب “كفاحي” (لأدولف هيتلر)، والنظريات العرقية، ومن سيحصل على أي وظيفة في حكومة مقبلة لـ”جبهة وطنية”. وكان زعيمهم، وهو رجل كريه من هوف يدعى جون تيندال، مثل أوزوالد موزلي من قبله، يحاول تقليد أسلوب هتلر الخطابي على نحو سيء. وكان البريطانيون يجدون هؤلاء الفاشيين تافهين حقاً، وذلك في الأوقات التي لم يكونوا يتعرّضون فيها للترهيب أو الضرب من قِبل هؤلاء النازيين الجدد.
وفي فترة لاحقة، ارتدى “الحزب القومي البريطاني” وزعيمه نيك غريفين بزّات رسمية، وحاولوا الظهور بمظهر الأشخاص العاديين، إلا أن تلك الحيلة كانت جرعة من السم القديم نفسه، ولم تنطلِ على الناس. لذا فقد انقسم أعضاء الحزب وطويت صفحتهم كغيرهم. هكذا كان اليمين المتطرف في بريطانيا تقليدياً يقول ويفعل أشياءً شنيعة، لكنه لم يكن في الحقيقة يمثل تهديداً لديمقراطيتنا أو أسلوب حياتنا المتسامح.
وهل يشكلون اليوم هذا التهديد؟ لا توجد قيادة ولا حزب سياسي بوسعنا الحديث عنه، بيد أن من السهل تخيل إمكانية تسييس حرب الثقافة. وهنا أرى صديقنا القديم نايجل فاراج خارجاً يحصي عدد قوارب المهاجرين التي تصل إلى الساحل الجنوبي، ويغرِّد باكياً عن “خيانة البريكست”. فقد ترك “حزب استقلال بريطانيا” وراءه، لأن الحزب أصبح عنصرياً، لكن قد تتساءل ماذا ستكون مهمته التالية، بعد انتهاء عقده الآن مع إذاعة “إل بي سي”. وأتساءل ما إذا كان بإمكانه ركوب النمر المتمثل في القومية البريطانية الحديثة.
بيد أن الأمر الأكثر ترجيحاً بكثير هو أن يؤدي بوريس جونسون هذه المهمة نيابة عن فاراج. فقد بدأ رئيس الوزراء سلفاً يسير في هذا الاتجاه، من خلال الإدلاء بتصريحات مروّعة حول كيفية رؤية السود أنفسهم كضحايا، وهي تصريحات تردد بشكل سيء ما كتبه ذات مرة عن سكان ليفربول. فهو يريد أن يكون المدافع عن التماثيل وعن تاريخ بريطانيا، أو بالأحرى عن نسخته هو من تاريخ بريطانيا.
لقد بات حزب المحافظين اليوم سلفاً البديل الأقل غلاظة للفاشية. ونجح عادة، من خلال تعقيدات النظام الانتخابي البريطاني، في استقطاب اليمين المتشدد إلى صفوفه وتهميش المجموعات المتطرفة المتبقية. فقد فعل ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين مع أتباع موزلي وفي الثمانينيات مع “الجبهة الوطنية”، ومرة أخرى في عام 2010 مع “الحزب القومي البريطاني” والقوميين المترددين في “حزب استقلال بريطانيا” الذي قاده فاراج ومع أحزاب البريكست. ويبدو هذا الأمر مفيداً، حتى تكتشف أن عليك تحمّل نسخة مخففة من الفاشية في إدارة البلاد، أي أن تتحمل ديكتاتورية منتخبة. إننا نعيش حاليّاً هذا الوضع، الذي لا أدري كيف كان تشرشل سينظر إليه.