التكامل الاقتصادي الضمان الأمثل لاستقرار الدول ويقتضي التعاون المشترك في كافة المجالات
مصطفى الفقي
ردد كثير من أصحاب التوجهات العروبية شعاراً تقليدياً في فترة المد القومي والحلم العربي، وكان ذلك الشعار هو أنه لا عَلم يرتفع فوق علم بلادنا إلا علم الوحدة العربية، الذي يعلو على سواه. ولقد رددها المواطن العربي الأول “شكري القوتلي” رئيس الجمهورية السورية قبيل إعلان الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، وبغض النظر عن مصداقية الشعار وإمكانية تطبيقه إلا أنه يطرح أمامنا في هذه المرحلة الملتبسة من التاريخ العربي الحديث تساؤلات كثيرة؛ فهل يا ترى لا يزال حلم الوحدة العربية قائماً؟ وهل باستطاعتنا تحقيقه؟ وهل ظل حلم الوحدة متصدراً أولويات العمل العربي المشترك؟ إنني أتشكك في ذلك كله، فالقومية تكاد تنتقل من شعارات الأحلام إلى سراب الأوهام، ولعلي أقدم في السطور التالية تفسيراً للصدام القائم بين المصالح القُطرية، أي تلك المرتبطة بكل قطر على حدة، وبين الأهداف القومية التي تبدو مظلة كبيرة لكيانات تربطها أواصر تاريخية وجغرافية وثقافية واقتصادية يمكن تتويجها في النهاية بمفهوم عصري لليقظة القومية، التي تسعى إلى رفعة شأن الأمة والاعتلاء بقدرها، وهذا يقودنا إلى تأمل المحاور الآتية:
أولاً: إن الذين يتابعون التطور الفكري للأطروحات القومية المعاصرة يدركون أن الدنيا قد تغيرت، وأن المفهوم قد تحول ولم تعد القومية هي ذلك الإطار العاطفي الذي يظلل جماعة بشرية بغض النظر عن الواقع الاقتصادي والبيئة السياسية العالمية والأحداث القومية الجارية، لذلك بدأ التحول الواضح في مفهوم القومية لكي تكون توصيفاً عملياً لمفهوم مشترك للمصلحة الواحدة، التي تجمع بين عدة أقطار أو مجموعة من الدول يوجد بينها عوامل مشتركة، يقع في مقدمتها المردود الاقتصادي والتفاصيل المتصلة بمجالات التعاون المشترك والتكامل في المشروعات في ظل إطار عصري حديث، لذلك اتجهت كثير من المجموعات نحو تعبير التكامل الاقتصادي بديلاً للطرح القومي العام، الذي لا يخلو من غموض، ويتأثر بالانفعالات القومية، إذا جاز التعبير، ولذلك تصدر العامل الثقافي المشهد في العقود الأخيرة من خلال مفهوم جديد للقومية بإطارها الواقعي، وذلك ما دفعني في مستهل تسعينيات القرن الماضي أن أصدر كتابي “تجديد الفكر القومي”، الذي سجلت فيه ذلك التطور الكبير الذي طرأ على مفهوم القومية ونقلها من البرج الدجماتي إلى المستوى البرجماتي، فالشعوب كالجيوش تمشي على بطونها وترى بعقولها وليس لديها جميعاً ترف الشعارات الجوفاء والعبارات الرنانة التي تقوم على سخونة العاطفة ولحظية الانفعال.
ثانياً: لقد شبت دول صغيرة على الطوق وأصبح من حقها بمنطق المساواة في السيادة أن تفكر بمصالحها الذاتية، بل وحتى أهدافها القصيرة، لعلها تخرج منها بما يمكن تحقيقه لمجتمعاتها في إطار خططها الداخلية والبيئة السياسية والمناخ الثقافي السائدة فيها، لذلك فإنه من العبث أن نطلب من دولة عربية أن تمضي وراء شعار قومي حتى ولو تعارض ذلك مع أهدافها القصيرة وغاياتها المحددة، ولعل التعارض المرحلي بين الشعارات القومية والمصالح الذاتية إحدى أهم العقبات التي واجهت مسيرة العمل العربي المشترك خصوصاً أننا أمة أدمنت إخفاء الحقائق، فنحن نقول ما لا نفعل، ونفعل ما لا نقول، فتكون النتيجة هي الصدام الحتمي بين المصالح الآنية والأهداف البعيدة، ويمكن تطبيق إطار هذه الإشكالية على معظم الأزمات في الوطن العربي خلال العقود الأخيرة.
ثالثاً: دعنا نعترف أننا نقع في قلب العالم بمنطقة ظهرت فيها الديانات وبزغت الثقافات وتعاقبت الحضارات. ثم، وذلك هو الأهم، ظهرت فيها الثروات وجرى زرع إسرائيل في قلبها، فأصبح أمن الدولة العبرية شاغلاً للقوى الغربية الكبرى، فضلاً عن الرغبة في حراسة النفط، وإن كانت تلك الرغبة قد تراجعت قليلاً بحكم ظهور بدائل الطاقة والتطورات الحديثة في مجال اكتشافات البترول الصخري ومصادر الطاقة الأخرى.
ولكن الأمر في النهاية يؤكد أننا نعيش في منطقة خضعت دائماً للضغوط واستهدفتها على الدوام كافة الأطماع، ولذلك تعرضت المنطقة العربية لهجمة شرسة من جانب القوى المعادية لتطورها واستقرارها ورفاهيتها، ولو أخذنا كل قُطر عربي على حدة، لوجدنا أن حجم الضغوط التي يقع تحت طائلتها ويعاني وطأة استمرارها سوف نجدها كثيرة ومتواصلة ومعدة إعداداً جيداً من خلال عقل واع يقف وراءها، ولكل دولة عربية أساليب في الضغط عليها وفقاً لظروفها الاقتصادية وقوتها العسكرية واحتياجاتها اليومية، ولذلك لم يكن الداهية هنري كسنجر ساذجاً عندما رفع شعاره الشهير “الطعام في مقابل النفط”، ولذلك يجب ألا ننسى أننا أمة تستورد غذاءها وكساءها. كما يبدو فيها الإنتاج الصناعي ضعيفاً حتى الآن فضلاً عن تواضع البحث العلمي، وحاجة كل الدول العربية إلى الاعتماد على صناعات أجنبية وأبحاث خارجية ومظاهر مستوردة للحياة العصرية الحديثة.
رابعاً: يجب أن ندرك أن هناك قوى تتربص بنا الدوائر، وتسعى للمشاركة في هجمات شرسة عند اللزوم ضد المصالح العربية والاستقرار الوطني، فنحن في منطقة تستهدفها إسرائيل وإيران وتركيا، وربما إثيوبيا أيضاً، والمخططات كثيرة، والمصالح متضاربة، والأطماع لا تنتهي، كما أن إيقاع الحركة الدولية والإقليمية يبدو أسرع من قدرتنا على ملاحقته فتكون النتيجة مزيداً من محاولات السيطرة وأساليب الضغط وتعطيل حركة العمل العربي المشترك، إذا بقيت له مساحة في ظل التشابك الذي نراه والتداخل الذي نعيش فيه، فإسرائيل والفرس والترك والأحباش وغيرهم يترصدون، ولو بدرجات متفاوتة، المصالح العربية، ويرغبون في إضعاف تلك الأمة لكي تصبح عاجزة عن إبراز هويتها وتحقيق مصالحها رغم كل المحاولات العربية الجادة أحياناً في كسر الطوق، وتعزيز مفهوم التضامن العربي. ناهيك عن أساليب التآمر ودس الوقيعة بين الدول العربية من حين لآخر، واللعب على التناقضات في المستويات الاقتصادية بين تلك الدول.
خامساً: إن التغريد خارج السرب والخروج عن الأطر العربية العامة ظاهرة تستحق التأمل وتعبر عن مرحلة من التناقض لا مع الشعارات والمبادئ فقط، ولكن أيضاً مع الغايات والمصالح، ومخطئ من يتصور أن الخروج على توافق الأشقاء يمكن أن يحقق لطرف واحد ميزة على غيره، فالتاريخ لا يرحم وأحداثه فاضحة بالضرورة كما أنها لا تقف عند حد في ذلك السياق، بل إنني أضيف هنا أن التكامل الاقتصادي، حسن النية ودون مخاوف، هو الضمان الأمثل لاستقرار الدول وسلامة أراضيها وذلك يقتضي وجود حد أدنى من التعاون المشترك في كافة المجالات.
هذه بعض الرؤى القومية التي لا تتعارض مع المصالح الوطنية، ولكن الأمر يحتاج إلى ترتيب الأولويات وإبراز أهمية كل مرحلة وأفضلية تحقيقها وإعطائها أسبقية على غيرها، ولن يتحقق ذلك إلا بالأسلوب العلمي في التفكير والتركيز على المفهوم العصري للقومية بعيداً عن العواطف والانفعالات والمغامرات غير المحسوبة والمؤامرات المدروسة، إذا كنا جادين بحق في إحداث التوازن بين المصالح القطرية والغايات القومية.
نقلا” عن أندبندنت عربية