في مقاله* لـ DW عربية يكشف علاء الأسوانى عن رأي دوستويفسكي في سارة حجازي.
يعتقد كثيرون، وأنا معهم، ان الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881) هو أعظم روائي في التاريخ. لقد قدم دستويفسكي في رواياته عالما غنيا بشخصياته المتنوعة المدهشة وأتاح لنا معرفة عميقة بالنفس الانسانية لم تتوفر لكاتب آخر. عاش دوستويفسكي العبقري حياة حزينة مؤلمة عانى خلالها من الفقر ومرض الصرع وإدمان القمار والحرمان العاطفي وخداع الآخرين واستغلال الناشرين البشع لاحتياجه إلى المال.
وكأن كل هذا البؤس لم يكن كافيا فتم القبض على دستويفسكي عام 1849 بتهمة حيازة وقراءة منشورات معادية للقيصر وتم الحكم عليه بالاعدام وفي اللحظات الأخيرة قبل اعدامه ألغى القيصر الحكم واستبدل به عقوبة السجن في سيبيريا. قضى دوستويفسكي أربع سنوات محبوسا مع السجناء الجنائيين: اللصوص والقتلة والمغتصبين والمزورين وسجل تجربته في روايته العظيمة: “ذكريات من بيت الموتى”.
في هذه الرواية يعلمنا دوستويفسكي ان المجرمين والمنحرفين يكون عندهم دائما جانب من الخير في شخصياتهم ويكون لديهم أيضا نموذجهم الأخلاقي. في مشهد من الرواية يمرض أحد السجناء المجرمين ويتم نقله إلى المستشفى وهناك تتدهور حالته ويبدأ في الاحتضار، وإذا بسجين مجرم آخر يقف عند فراشه ويتطلع إليه صامتا ثم يبكي بحرارة وعندما يسأله دوستويسفكي:
– لماذا تبكي؟!
يشير السجين إلى المحتضر ويقول:
– كانت له، هو أيضا، أم تبكي من أجله عندما يموت.
ان كلمة “هو أيضا” تلخص هنا المعنى الذي قصده دوستويفسكي بل لعلها تلخص رسالة الأدب كلها. ان السجين يقول عن زميله المحتضر:
“لقد كان شخصا سيئا وقد ارتكب جرائم في حياته لكنه، هو أيضا، انسان مثلنا وعندما يحتضر يحتاج مثلنا إلى أم تحتضنه وتودعه وتبكي من أجله”.
هنا يدعونا دويستويفسكي إلى احترام قيمة الانسان بغض النظر عن أي اعتبار آخر.. انه يدافع عن “الانسانية المطلقة” ضد “الانسانية المشروطة” التي يمارسها كثير من الناس.. سارة حجازي شابة مصرية آمنت بالثورة واشتركت فيها وقد بدأت حياتها متدينة محجبة ثم ساورتها شكوك في الدين فخلعت الحجاب ثم اكتشفت في نفسها ميولا مثلية فأعلنت عنها. في حفل أقيم في القاهرة من سنوات رفعت سارة حجازى علم قوس قزح (الذي يدعو إلى تقبل المثليين) عندئذ تم القبض عليها وضربها وتعذيبها وصعقها بالكهرباء والتحرش جنسيا بها، ومارس الضباط أبشع انوع الاذلال الجسدي والنفسي عليها.
خرجت سارة من السجن محطمة تماما وخضعت للعلاج النفسي وهاجرت إلى كندا، حيث تلقت نبأ وفاة أمها وهي بعيدة عنها. لم تعد سارة تتحمل المزيد من القسوة فانتحرت وقد أدى انتحارها إلى اثارة جدل شديد بين أنصار الانسانية المطلقة وأنصار الانسانية المشروطة. الذين يعتبرون سارة انسانة شجاعة وأمينة وضحية للقمع، دافعوا عنها وترحموا عليها وطلبوا من الله ان يشملها بعدله ورحمته، والذين يضعون شروطا للانسانية أدانوا سارة ولعنوها بعد موتها وهم ثلاثة أنواع: شيوخ ينافقون الديكتاتور ولا يفتحون أفواههم لادانة الظلم والقمع لكنهم يستأسدون على ضحية للقمع مثل سارة.
هناك أيضا أنصار الاسلام السياسي الذين يعتبرون خلع الحجاب والمجاهرة بالشك في الدين من التصرفات الكافية لنزع الرحمة عن أي انسان. هؤلاء أنفسهم قتلوا المفكر الشهيد فرج فوده عام 1992 ليس لأنه طعن في الاسلام وانما لأنه أثبت بالحجة الدامغة أن فكرة الخلافة الاسلامية خرافة لا وجود لها في التاريخ والدين، الأمر الذي سيؤدي إلى حرمان الاسلاميين مما يعتبرونه حقهم “الديني” في تولي السلطة..
النوع الثالث من مهاجمي سارة هم أعضاء جماعة الأخلاق الحميدة الذين يختارون المعارك السهلة التي لا تكلفهم شيئا وتحقق لهم احساسا بالتميز بالتقوى.. إنهم يثورون بشدة اذا صورت فتاة نفسها بالمايوه على الانترنت ويطالبون بالقبض عليها، لكنهم لا يدافعون أبدا عن حقوق آلاف المعتقلين في سجون السيسي لأنهم يعلمون جيدا أن توجيه النقد للسيسي والاعتراض على ظلمه موقف له ثمن باهظ لايريدون أن يدفعوه.
إن الصراع بين الانسانية المطلقة والانسانية المشروطة يستمر في كل أنحاء العالم. إن الديكتاتورية والعنصرية والاستعمار والارهاب الديني يشتركون في تطبيق الانسانية المشروطة. إن نظام محمد بن سلمان الذي قتل الصحفي جمال خاشقجي ومزقه بالمنشار عقابا على آرائه ليس أفضل من مقاتلي داعش الذين يذبحون غير المسلمين ويغتصبون نساءهم باسم الدين، وهم ليسوا أفضل من نظام السيسي الذي يعتقل عشرات الألوف من الأبرياء والذي سمح بقمع سارة حجازي وتدميرها نفسيا، ويشترك مع هؤلاء الحكام الغربيين الذين يدعمون الديكتاتوريات العربية من أجل مصالحهم الاقتصادية وهم يعلمون أن هذا الدعم سيؤدى إلى سقوط المزيد من الضحايا الابرياء.
على الجانب الآخر نرى أنصار الانسانية المطلقة. هؤلاء الذين يدافعون عن القيمة الانسانية بدون شروط ويخوضون المعارك ضد الكراهية والتعصب والعنصرية والاستبداد. ستجد بين هؤلاء الأدباء والفنانين والمدافعين عن حقوق الانسان والمناضلين من أجل العدل والحرية وأصحاب الضمائر الحية في كل بلاد العالم.
لقد عاشت سارة حجازي بشرف وصدق واختارت الرحيل لأنها لم تعد تتحمل المزيد من الاهانات وقد كشف رحيلها عن أمراض النفاق والقبح والشر التي يعاني منها كثيرون يقدمون أنفسهم بصفتهم حراس الفضيلة وهم أبعد ما يكونون عنها.
أدعو الله سبحانه وتعالي أن يشمل سارة حجازي بعدله ورحمته لأنها لم تجد عدلا ولا رحمة في حياتها أو بعد موتها.
الديمقراطية هي الحل
draswany57@yahoo.com
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.