كتب : د عبده يحيى الدباني
بعد العودة من الأمسية الأولى في رصد إلى ذلك المنزل الذي استضافنا صاحبه للإفطار ، لم أستطع أن أنام بعد السحور مثلما هي العادة في عدن ، شع الفجر فأطل الصباح ، فارتفعت الشمس وأنا أغالب النوم واراضيه وأدعو الله أن يهديه فيتسلل إلى عيني، لا صوت مروحة هنا ولا حنين مكيف، الجو حار بعض الشيء والكهرباء في يافع تشتغل من الخامسة عصرا حتى بعد السحور ثم تتوقف النهار كله. ما العمل إذن الغريب غريب والسفر متعب مهما يكن . كلما حاولت استرخي واغمض عيني أحس بالذباب قد حط على جسمي فكأنما يحمل بين جناحيه شوكا يوخز به جسمي حيث يحط ويتنقل، هل أنهض لمصارعة الذباب لكي أنام ولكن بم ؟ وهل جئنا هنا لنصارع الذباب، ام جئنا لنحاضر الناس كيف نقاوم الاحتلال سلمياً إلا أن يشاء الله .
ساعتها كان النوم مشكلتي فالنهار قد استوى ، والأصوات من الخارج تصل إلي بقوة، صياح الديكة، وثغاء الأغنام وأصوات الأطفال، وصوت عامل يضرب الصخور بالحديد ليستخرج منها الأحجار للبناء ، يسمونه (المنقش) و( النقاش) وعمله (النقاشة) وبين حين وحين أحس بالبول فأخرج لذلك، وأنا محرج ومستحيي مع أنه لم يرني أحد .
تذكرت قصة ذلك المناضل المصري
الذي سجنه الاحتلال الإنجليزي وكلف بعمل شاق ، ومنع عنه البول
فقد اختزلت قضية ذلك السجين ساعتها بكيف يخرج البول ولم يعد يهمه خروج الاحتلال من بلاده.
ومع هذا فقد خرج البول وخرج الاحتلال.
إن غطيت جسمي بالمعوز شعرت بالحر وإن نفضته عني هاجمني الذباب، بينما صاحباي قد ناما، ما شاء الله عليهما .
ما أجمل أن تنام متى تشاء من غير مغالبة ولا استرضاء ولا تمهيد طويل، إنني اغبط أولئك الذين ينامون متى يشاؤون كأنهم يخرجون النوم من جيوبهم . إن هذه نعمة لا تقدر.
كانت معاناة وكنت قد بدأت اتبرم
من حالي، لكن صوتا آخر مختلفا ينبض في داخلي بقوة ويقول لي
بقسوة: ماذا صنعت لكي تشكو من تعب هذه الرحلة؟! لقد جاءت بك وبصاحبيك سيارة صالون من داخل عدن ، واستقبلتكم يافع استقبال الفاتحين، واشتعلت الأيدي بالتصفيق لما طرحتموه من أفكار ثورية جديدة، وطار خبر زيارتكم في أرجاء يافع، وهاهي بعض المناطق تتصل وتتواصل وتلح في طلب زيارتكم إياها ومشاركتكم في أمسياتها الرمضانية؟؟ ثم يزداد الصوت عتبا وقسوة، فيقول:
الستم اصحاب قضية عادلة ومشروعة وهنالك وطن عزيز ينتظر تحريره، أليس غيركم قد قدموا أرواحهم وسالت دماؤهم في سبيل
هذه القضية الوطنية المقدسة؟؟
نم او لا تنم فليست هذه المشكلة!!
… ..
وأخيرا نمت لا أدري كيف كان ذلك،
فالنوم شقيق الموت. النوم مهما تأخر او جفا لكنه في الأخير يأتي، وإن تنم في القرية ساعتين او ثلاثا يكفك ذلك بحكم طبيعة الجو وطبيعة النوم فيه. ثم إن السهر في رمضان يختلف
عما في سواه وهذا مجرب عندي
وليس مجرد تنظير فالنوم في رمضان يغني قليله عن كثيره
فسبحان الله.
وبعد عصر ذلك اليوم انطلقنا من رصد مركز المديرية إلى منطقة أخرى شرقا ، لم تكن بعيدةً . لم يكن في برنامجنا أن نبقى في يافع غير يوم أو يومين ثم نعود لعدن ، فالدنيا رمضان وعلينا التزمات ، ولكن ضغوطات الأهالي والناشطين بوجه خاص والاتصالات من المناطق الأخرى حول رصد جعلنا نبقى هناك خمسة أيام ، نتنقل بين تلك المناطق كريمة الأهل والأرض والهواء والوفاء والوطنية الجنوبية الخالصة .
كان إلى جانبي فوق السيارة الأخ حمود السعدي مهندس الرحلة ودليلها ، فكان يلفت انتباهي إلى طبيعة تناسق القرى في يافع وتداخلها بطريقة عجيبة ، فقراها وجبالها مثل أوراق المذكرة تفتحها واحدة تلو الأخرى، تشكيلة عجيبة ومكثفة، حتى لقد قيل (يافع بليات السيل ) والسيل هنا جمع سيلة .
يسحرك هذا التنظيم الإلهي ويتركك مشدوها، وأنت تتجول بين الجبال وحواليك القرى والأرض الخصبة ، نقول عادة عن التربة الجيدة إنها تتكون من (حجر وخلبة) ، وهكذا هي يافع جبال وقرى وسفوح وسهول متداخلة وجميلة الأسلوب، يشد بعضها بعضا .
كنا نسير نحو منطقة (رخمة) ولو كانوا حذفوا النقطة من فوق الحرف الثاني لما أخطأوا . كانت فيحاء جميلة ، وكانت قد أمطرت سماؤها قبل أسابيع كما يبدو ، وكان زرعها في بداية نموه.. صغيراً يرعاه الفلاحون ويخففون ضغط التربة من حوله لكي بتجاوز مرحلة الطفولة فيشب ويعجب . وصلنا رخمة قبيل الإفطار ، كنا بضيافة إحدى الأسر الكريمة ، قدموا الأكل أنواعا وألوانا وفي مقدمة ذلك اللحم والمرق، ولم نكن وحدنا ، فقد كنا حشداً كبيرا ، من أهل المنطقة وممن جاء معنا من رصد .
كان ليلة لاتنسى في رخمة حضرنا فيها وحاضرنا واكلنا وشربنا وعانقنا رجالاً وجدناهم لأول مرة ولكن كأنهم كانوا ينتظرون هذا اللقاء بنا منذ سنين ، مثلما كنا نحن كذلك .
يافع هي مصدر عز الجنوب في سلمه وحربه، وهي عمقه الحصين عبر التاريخ في استقلاله واحتلاله . هنالك في يافع تشعر بأن الجنوب قوي وأنه منتصر لا محالة ، أجل إنها يافع سنام الجنوب مثلما هو الجهاد سنام الإسلام ، وما السنام إلا رمز للشرف والعزة والكرامة والأنفة والحرية .
كانت الأسرة التي استضافتنا إفطاراً ، قد أبى صاحبها إلا أن يستضيفنا سحوراً ، كان كلامه حاسماً لا يقبل النقاش ، فلم نستطع جميعاً أمام هذا الإصرار الكريم إلا أن نوافق ، ولكن
شاء قدر الله ، في تلك الليلة أن يقع حادث مؤسف لأحد أفراد هذه الأسرة في الغربة، فمات رحمه الله تعالى . وهكذا ودعنا رخمة وعزينا أهلها وبعثنا اعتذارنا لتلك الأسرة الأصيلة مع خالص تعازينا، وعدنا إلى رصد في آخر الليل .
كان صاحبي حمود يمزح معي في أثناء العودة ويقول نحن كلنا أبناء المنطقة ولكن أنت الضيف والمحاضر الأساسي، اما الدكتور زيد قاسم فهو من أهل المنطقة وانا كذلك ، يريد بهذا الكلام مازحاً انني أنا النحس الذي تسببتً في موت ذلك الشاب المهاجر من أبناء تلك الأسرة ، وكنت أقول لأخي حمود احفظ هذا الحديث النبوي ( اللهم لاطير إلا طيرك ولاخير إلا خيرك ولا إله غيرك ) .
واذكر أن أحد الرفقاء علق قائلاً إن المتوفي قد كان مريضا وقد عانى ما عانى مثلما عانت أسرته من جراء ذلك وإن الموت كان رحمة به وبهم . لقد حذفت النقطة إذن فصارت رخمة رحمة ، فرحت بهذه المرافعة دفاعاً عني ليس لكي لا اتهم بالنحس ولكن لأن المصاب لم يكن جللا ، مع أن الأسرة سوف تحزن على كل حال .
تسحرنا وصلينا الفجر ونمنا في رصد . في الفندق شعرت بحرية الحركة وكنت في غرفة مستقلة ، فلم احتج كثيرا إلى استرضاء النوم او التودد له او الدخول في معركة كر وفر مع الذباب .
وإلى حلقة أخرى وامسية أخرى
في منطقة أخرى في يافع الخير.
.