كتب بواسطة حسن زنيند
كشفت جائحة كورونا وقبلها الحرب التجارية بين واشنطن وبكين عن مخاوف مطردة لدى دوائر صنع القرار الغربية من تنامي القوة الصينية وتداعيات ذلك على ريادة العالم، فهل يدفع الغرب اليوم ثمن انقساماته أمام القوة الآسيوية الصاعدة؟
طموحات الهيمنة الصينية تزعج الغريم الأمريكي
عجلت جائحة كورونا وقبلها الحرب التجارية بظهور تحول جوهري في رؤية الغرب للقوة الصينية الصاعدة. وظهر هذا التحول في الجدل الدائر بين من يسعى لإطلاق حرب باردة جديدة ومن يعتبر أنه لم يعد بالإمكان الاستغناء عن “العملاق الأسيوي”، ومن الملاحظ هنا وجود مساحات من التردد إن لم نقل التخبط في التعامل مع واقع جديد في طور التشكل، لن يكون فيه الغرب القوة المهيمنة الوحيدة في العلاقات الدولية
وبات من الواضح أن الصين في طور تحول في دورها إلى قوة إمبريالية تنافس الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الأخيرة نفسها كانت وريثة جيوسياسية للقوى الأوروبية الكبرى (بريطانيا وفرنسا تحديدا) بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك تم داخل نسق سياسي وثقافي غربي. اليوم ولأول مرة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، يجد الغرب نفسه لأول مرة في وضع قد يؤدي به إلى فقدان الريادة العالمية. حدة التصدعات والانقسامات بين القوى الغربية، تعرقل إيجاد أجوبة ناجعة لمواجهة القوة الصينية الصاعدة.
الصين تضرب بقوة في قلب أوروبا
في تحرك أربك العواصم الأوروبية، تمكنت الصين من إغواء الحكومة الإيطالية عام 2019 وجعلها تنضم لمبادرة “طريق الحرير”. هذه الخطوة وقف وراءها في الجانب الإيطالي، ميشيل غيراتشي الذي تربطه علاقات قوية مع بكين. وهو من قيادات حزب “ليغا” اليميني الشعبوي وكان كاتب دولة في وزارة الشؤون الاقتصادية. عاش في الصين كمستثمر مالي لمدة عشر سنوات، ويعتقد أنه بذلك سيساعد إيطاليا على استعادة هيبتها ومكانتها الاقتصادية.
توغل بكين في إيطاليا ظهر بشكل خاص، حينما عارضت روما قرارا أوروبيا بإخضاع الاستثمارات الصينية في الشركات الأوروبية ذات الأهمية الاستراتيجية لفحص أكثر صرامة في المستقبل. غير أن المشهد السياسي الإيطالي تغير منذ ذلك الحين، بعد مغادرة حزب “ليغا” الحكومة. فمن أصل خمسين اتفاقية أبرمتها إيطاليا مع الصين لم تحتفظ الحكومة الحالية إلا بـ 29 منها فقط. وجاءت أزمة كورونا لتضرب شعبية الصين لدى الإيطاليين، لكن الإغواء الصيني دق ناقوس الخطر بشأن طموحات بكين في القارة العجوز.
صراع العملاقين ـ تنافس يتجاوز لياقة الديبلوماسية
أمضت الولايات المتحدة والصين خلال الأشهر الماضية الكثير من الوقت في تبادل الاستفزازات باستعمال كل الوسائل المتاحة، وابتعد الطرفان في الكثير من الأحيان عما تقتضيه اللياقة الديبلوماسية. وجاءت جائحة كورونا لتزيد الطين بلة وتفاقم منسوب التوتر بين الطرفين، فبات تعبير “حرب باردة جديدة” على كل الألسن. في مقال تحت عنوان “جميعا ضد الصين” كتب موقع “شبيغل أونلاين” الألماني في (22 يونيو/ حزيران 2020) مقالا موسعا اعتبر فيه أن “بكين توسع قوتها ونفوذها بلا رحمة، فيما تتزايد مقاومة العديد من البلدان لهذا المد” مع التأكيد أن على “ألمانيا أن تلعب دورا رئيسيًا في (هذه المقاومة)”. وتشير الصحيفة في ذلك إلى المواجهة العسكرية الأخيرة بين الصين والهند والتي أسفرت عن مقتل عشرين جنديا هنديا وعدد آخر غير معروف في الجانب الصيني، موضحة أن قيادة الحزب الشيوعي في بكين مستعدة لاستعمال كل الوسائل لتحقيق أهدافها، وهي التي تخطط لتحويل البلاد إلى أول قوة عسكرية في أفق منتصف القرن الجاري. ورغم أن ميزانية الدفاع الصينية الحالية (170 مليار دولار) لا تزال بعيدة عن النفقات العسكرية الأمريكية (700 مليار دولار)، فإن الحكومة الصينية تزيد من ميزانية الدفاع بشكل منهجي وسنوي.
الحديث عن القوة الصينية الصاعدة لا يجب أن تُغطي على الجوانب الرهيبة المصاحبة للصعود الصيني، منها نظام بوليسي يبطش بكل من يخالف الرأي الرسمي ومئات الملايين من العمال المياومين والبنوك الحكومية التي تجلس على المليارات من القروض المتعثرة. إضافة إلى الاضطرابات الاجتماعية في هونغ كونغ وغيرها. علاوة على الخلافات التي تربطها بعدد من دول الجوار.
ألمانيا وأوروبا ـ مساحة للمراوغة بين العملاقين
تعتبر العلاقة مع الصين من أصعب التحديات التي تواجه السياسة الخارجية لألمانيا والاتحاد الأوروبي. فأوروبا تكاد لا تعلم كيف يمكن أن تتموضع في الصراع من أجل الهيمنة بين واشنطن وبكين. وبهذا الصدد كتب يينس مونخرات في صحيفة “هاندسبلات” الاقتصادية (25 يونيو/ حزيران 2020) أن “أوروبا تجد نفسها “ممزقة بين الولاء لـ “شريكة في القيم” عابرة للأطلسي، شراكة تم تخفيضها إلى مستوياتها الدنيا في عهد الرئيس دونالد ترامب، وبين تزايد شكوكها بشأن طموحات القوة العظمى الناشئة في آسيا. قوة لا تتصرف فقط بشكل استبدادي في الداخل، مثال هونغ كونغ، ولكنها تفرض أيضًا مصالحها الجيوسياسية بأساليب مشكوك فيها”. وما يزيد الأمر تعقيدا، الارتباط الكبير بين ألمانيا والصين على المستوى الاقتصادي.
وفي السياق نفسه، تساءل جوزيف جوفي في موقع “تسايت أونلاين” الألماني (24 يونيو/ حزيران 2020) “ماذا عن أوروبا؟” التي تملك نصف مليار نسمة وثاني أكبر اقتصاد في العالم، أي أكبر من اقتصاد الصين؟ أليست أوروبا قوة عظمى بسكانها ذوي التكوين العالي؟ وبفضل إنجلترا وفرنسا يمكن لأوروبا أن تفرض نفسها كقوة نووية وعدد جنود يقارب ما تملكه الولايات المتحدة”. واستطرد موضحا أن ما ينقص أوروبا “هما عنصرين أساسيين: إرادة مشتركة لا تملكها الدول الأعضاء في الاتحاد، يمكن من خلالها جمع بلدين مختلفين مثل البرتغال وبولندا. ثم وعي استراتيجي يجعل من “القوة المدنية” الهائلة التي تمثلها أوروبا، كيانا عالميا. وأقوى سلاح لتحقيق هذا الهدف هو التجارة والاستثمار والدبلوماسية والمؤسسات”.
أزمة كورونا ـ فرصة لتحقيق طفرة نوعية
ترى الصين في أزمة كورونا فرصة لتعزيز قوتها الناعمة وتوسيع نفوذها الاقتصادي والسياسي على المستوى العالمي. موقع “فوكوس” الألماني عرض لهذا الموضوع في (السابع من يونيو/ حزيران 2020) واستشهد بما قاله الرئيس الصيني شي جين بينغ: “كل الخطوات الكبيرة في التاريخ تمت بعد الكوارث الكبرى”. ويبدو بالفعل، أن صناع القرار في بكين قد أخذوا العبرة من التاريخ. أو لم تصبح الولايات المتحدة قوة عظمى بعد الحرب العالة الثانية؟
قبل أعوام ليست بالبعيدة، كان ينظر إلى الصين كـ”معمل عملاق للعالم” ينتج سلعا رخيصة التكلفة تصدر إلى كل ربوع الأرض. “صنع في الصين 2025” مشروع صيني طموح تسعى من خلاله بكين إلى التحول إلى عملاق تكنولوجي بفضل الرقمنة والابتكارات الجديدة. وتسعى الحكومة الصينية إلى استثمار ما لا يقل عن 150 مليار دولار في البحث العلمي، وما مجموعه بليون دولار في القطاع التكنولوجي خلال السنوات العشر المقبلة. وهناك من يعتبر أن التنافس في مجالات الابتكار التكنولوجي والبحث العلمي أهم بكثير استراتيجيا من الحرب التجارية التي تخوضها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد بكين.
المصدر : DWعربية