كريتر نت – الأناضول – إحسان الفقيه
تبذل وسائل الإعلام السعودية جهودا كبيرة لعدم إبراز حقيقة أن ولي العهد، محمد بن سلمان (34 عاما)، هو صاحب القرار “الأول” في المملكة، والإدعاء بأن الملك سلمان بن عبد العزيز (84 عاما) يمارس مهامه كاملة بإدارة شؤون الحكم، رغم تقدمه بالسن، وحديث المتابعين للشأن السعودي بشكل متكرر عن وضعه الصحي.
لكن متابعة التطورات في السعودية، بعد ثلاثة أعوام من تولية الأمير محمد بن سلمان منصب ولي العهد، تظهر جليا أنه صاحب القرار الفعلي في إعادة بناء منظومة الحكم والتأسيس لدولة سعودية رابعة تختلف بشكل كبير عن سابقاتها منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى، عام 1744، على يد محمد بن سعود، أمير الدرعية آنذاك.
من بين مئات الأحفاد من ذرية الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة عام 1932، اختار العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز نجله السادس في الترتيب داخل الأسرة، محمد بن سلمان، لمنصب “ولي ولي العهد”، في 29 أبريل/نيسان 2015.
كما احتفظ محمد بن سلمان بمنصب وزير الدفاع، الذي شغله بعد أيام فقط من تولي والده سلمان الحكم، في 23 يناير/كانون الثاني 2015، خلفا لأخيه الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وبرز محمد بن سلمان على أنه المسؤول الأكثر نفوذا في الدولة السعودية.
لكن المتغير الأبرز في الاستحواذ على العديد من المناصب “السيادية” كان بعد تعيينه وليا للعهد، في 21 يونيو/حزيران 2017، في أعقاب عزل والده لمحمد بن نايف من هذا المنصب، لإحكام القبضة على القرار السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري.
ومن بين أهم المناصب، التي تولاها “ابن سلمان”، هو رئاسة “مجلس مكافحة الفساد”.
وفي أول نشاطات المجلس، بعد ساعات من الأمر الملكي بتأسيسه، وبتعليمات من ولي العهد، اعتقلت السلطات السعودية، في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أكثر من 40 أميرا من الأسرة الحاكمة ووزيرا ورجل أعمال؛ بتهم تتعلق بالفساد المالي وغسل أموال.
وأحدث من شملتهم الاعتقالات المتواصلة هو كل من الأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، الشقيق الأصغر للعاهل السعودي، في مارس/آذار من هذا العام، والأمير محمد بن نايف آل سعود، ولي العهد السابق، ابن شقيق الملك.
ويرى مراقبون أن حملات الاعتقالات، التي اتسعت لتشمل مفكرين ودعاة وحقوقيين ومعارضين لسياسات ولي العهد، تأتي في إطار تعزيز سلطات ولي العهد والاستحواذ على كامل القرار السعودي، في ظل ما يتردد عن اعتلال صحة الملك.
وفي مارس/آذار 2019، أدانت 36 دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة انتهاكات سلطات المملكة بحق نشطاء سعوديين، وطالبت بالإفراج عنهم وعن جميع معتقلي الرأي.
وكان مهما لولي العهد، الذي همّش “هيئة الأمر بالمعروف”، إنشاء هيئة على النقيض منها، وهي “الهيئة العامة للترفيه”، التي تنظم وتشرف على إقامة حفلات غنائية وترفيهية، وتتولى نهج الانفتاح الاجتماعي، بدءا من افتتاح دور سينما والسماح للنساء بدخول الملاعب الرياضية والاختلاط في الأماكن العامة.
أما أبرز معالم التغيرات الجذرية في المجتمع السعودي، فهو الانتقال السريع من نمطية محافظة وملتزمة دينيا طيلة نحو ثلاثة قرون، إلى مجتمع “منفتح” قفز بقرارات من ولي العهد على “محرمات” ليس بالضرورة أن تكون دينية.
فهذه “المحرمات” هي خليط بين الديني والاجتماعي، مثل قيادة المرأة للسيارة، التي كانت “محرمة” من جانب علماء الدين، الذين هم أنفسهم “أجازوا” الأمر بعد قرار السلطات السعودية في سياق بدا لكثيرين أنه بمثابة “توظيف السلطة الدينية لصالح السلطة السياسية”.
ومع أن رؤية 2030، التي أطلقها ولي العهد في يونيو/حزيران 2016، كان من المقرر لها أن تخلق واقعا اقتصاديا يعتمد على إيرادات بديلة عن الإيرادات النفطية، التي تشكل أكثر من 90 بالمائة من إيرادات الخزينة السعودية، إلا أنها، وبعد نحو أربع سنوات، لم تحقق الكثير على طريق تنويع الإيرادات.
بل على العكس من ذلك، فقد خفضت الحكومة السعودية الدعم للمواطنين السعوديين، وزادت نسبة ضريبة القيمة المضافة والرسوم على الوافدين والعمال الأجانب، لإرغام أصحاب الأعمال على تقليل نسبة الأجانب وتوظيف الشباب السعودي، للحد من البطالة.
وفي وقت يعاني فيه الشباب السعودي من البطالة وتراجع المستوى المعيشي، وبحكم سيطرته على المقدرات المالية للدولة، تتحدث صحف غربية من وقت لآخر عن إنفاق ولي العهد مبالغ طائلة لاقتناء لوحات لرسامين عالميين ويخوت فارهة.
على صعيد السياسة الخارجية لولي العهد السعودي، فإن العديد من قراراته ثبتت على أرض الواقع أنها كانت مكلفة للغاية، سواء اقتصاديا أو سياسيا.
ووفقا لمتابعين، فإن قرار حصار قطر، بعد أيام من زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرياض في مايو/أيار 2017 في أول جولة خارجية له، جاء بالتشاور أو بإيعاز من ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، الذي يُنظر إليه على أنه الشخصية الأكثر تأثيرا في قرارات محمد بن سلمان.
وكان من نتائج الحصار، الذي بدأ في يونيو/ حزيران 2017، أن أعادت قطر علاقاتها مع إيران، التي أعلن ولي العهد السعودي أكثر من مرة أنه سينقل الحرب إلى داخلها، وأن تدخل المملكة في اليمن، حيث تدعم طهران الحوثيين، هو للقضاء على النفوذ الإيراني في المنطقة.
كما أن قرار الحصار قوّض إلى حد بعيد جهود الولايات المتحدة مع الدول الخليجية لبناء تعاون أمني مشترك، لمواجهة ما يعتبرونها تهديدات إيرانية.
ويعد قرار اغتيال الكاتب الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية بإسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، هو الأكثر ضررا بسمعة السعودية وولي عهدها، حيث أشارت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى مسؤوليته المباشرة عن قرار الاغتيال. وهو ما تتمسك الرياض بنفيه.
أما قرار إدخال السعودية ودول أخرى في تحالف “هش” للقتال ضد الحوثيين في اليمن، في مارس/آذار 2015، فهو القرار الأكثر ضررا على اليمن (جارة المملكة)، من حيث تفاقم أزمته الإنسانية والخراب الكبير الذي لحق ببنيته التحتية، واحتمالات التقسيم وانفصال الجنوب، بدعم إماراتي وغض نظر سعودي، فضلا عن التداعيات على الاقتصاد السعودي وسجل المملكة الدولي في حقوق الإنسان.
وتُحَمِّل المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان ولي العهد السعودي شخصيا المسؤولية عن الانتهاكات في الحرب اليمنية وظهور إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وفق الأمم المتحدة.
ويعتقد مراقبون أن اندفاع ولي العهد في اتخاذ قرارات “جريئة” توصف أحيانا بـ”المتعجلة” أو “غير المدروسة”، أدى إلى خلخلة في تماسك “العقد الاجتماعي” بين ركيزتي السلطة، وهي الشرعية الدينية والشرعية السياسية للأسرة الحاكمة.
كما أحدث هذا الاندفاع شرخا في ثقة عموم المجتمع السعودي بالسلطة السياسية، التي استمدت شرعيتها في الغالب من السلطة الدينية، ذات الأثر الأكبر في مجتمع عُرف عنه الالتزام الأخلاقي والالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية.
وفي المرحلة الراهنة، يواجه ولي العهد، صاحب القرار الأول في السعودية، تحديات جسيمة ومخاطر جمّة، منها: تدارك حالة التراجع في الاقتصاد السعودي، جراء احتواء تداعيات تفشي وباء “كورونا” وتراجع مستوى أسعار النفط في السوق العالمية إلى أدنى مستوياتها، وإنهاك الاقتصاد السعودي بصفقات تسليحية مليارية.
وكذلك جراء الإنفاق على الحرب في اليمن وحروب الوكالة في ميادين صراع أخرى، ومشاريع استثمارية “عملاقة”، مثل مشروع “نيوم”، والإنفاق على الاستثمار في شركات ناشئة والقطاع الرياضي في الولايات المتحدة وأوروبا.
ويعوّل ولي العهد السعودي على استضافة قمة مجموعة “العشرين”، في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لتحسين صورته أمام المجتمع الدولي وسمعة السعودية، التي تضررت كثيرا، بعد اغتيال خاشقجي والانتهاكات المستمرة في اليمن.
وإجمالا، مثلت قرارات ولي العهد السياسية والأمنية والاقتصادية والتغيرات التي أحدثتها، “كسرا” لأنماط منظومة الحكم في التعامل مع أفراد الأسرة الحاكمة وللثوابت القيمية للمجتمع السعودي، وهي خليط متداخل بين الديني والاجتماعي.
في كل الأحوال، يمكن القول بولادة “المملكة السلمانية”، أو “الدولة السعودية الرابعة”، بما يشبه “الانقلاب الأبيض”، وهو ما سينجم عنه. المزيد من التغيرات على المستويين الداخلي والخارجي.