مشكلة رئيس البلاد في ضعف الاقتصاد الروسي مقابل القوة العسكرية
رفيق خوري
قمة المفارقات أن يقلّد العالم الأول موديل العالم الثالث: الرئاسة الملكية. شي جينبينغ ورث ماوتسي تونغ ثم المختلف عنه دينغ شياو بينغ وضمن لنفسه الرئاسة مدى الحياة وأدخل أفكاره في الدستور. فلاديمير بوتين لعب دور بطرس الأكبر ودور ستالين ودور منشقّ سوفياتي ودور حامي الكنيسة الأرثوذكسية. فصار قدره وقدر روسيا متلازمَيْن.
لوكاشنكو جمع العصر السوفياتي وعصر ما بعده رئيساً لروسيا البيضاء. وأكبر أحلام دونالد ترمب الخائف من مغادرة البيت الأبيض، وهو أكبر كوابيس أميركا والعالم، أن يحكم سلطوياً مثلهم كرئيس مدى الحياة.
يروي فلاديمير بوتين أن جده كان طبّاخ لينين ومن ثم في داشا لستالين. وهو كشاب ذهب إلى مركز “كا جي بي” في لينينغراد ( بطرسبرغ) وقال للمسؤول: أريد عملاً والانخراط معكم. فقال له: نحن لا نأخذ من يتقدّم إلينا. سأل: أي دراسة تريد؟ أجاب: معرفة القانون.
وهكذا درس القانون وتوظّف في جهاز الاستخبارات السري وكان يخدم في ألمانيا الشرقية عندما انهار جدار برلين. يلتسين عيّنه رئيساً للجهاز ثم رئيساً للوزراء.
ومنذ عام 2000 وهو الحاكم بأمره. اليوم ضمن له الاستفتاء على التعديلات الدستورية عدم التقاعد بعد نهاية الولاية عام 2024 بل البقاء رئيساً في الكرملين حتى عام 2036 من خلال الترشح لدورتين بعد “تصفير العدّاد الرئاسي” في انتظار تعديل آخر للدستور.
كان دوستويفسكي يقول “روسيا تحتاج إلى إله وقيصر”. ستالين دمج بينهما وقال “الروس شعب قيصري يحتاج دائماً إلى قيصر ليعبده ويعمل لأجله”. بيريا طلب من مخرج فيلم عن الثورة تصوير لينين كأنه يوحنا المعمدان وستالين كأنه المسيح.
وبوتين أخذ دور القيصر وأعاد إلى الكنيسة مجد الإله. وسرّ القوة ليس فقط في بوتين بل أيضاً في الظروف التي عرف كيف يوظّفها وفي روسيا نفسها.
روسيا التي يقول فلاديمير سيركوف، المعروف بأنه “مهندس حكم بوتين” إن الحفاظ عليها” ممكن فقط كدولة عسكرية – بوليسية”، وإن بوتين هو “القائد الوحيد الذي يثق به الشعب، والبوتينية ستستمر لقرون مثل الماركسية واللينينية”.
في كتاب “القناة الخلفية”، يروي الدبلوماسي الأميركي وليام بيرنز الذي عمل سفيراً لدى موسكو أن بوتين قال له “ليس خطأي إذا لعبتُ بيديّ الضعيفتين بشكل قوي، ولعب أصحاب الأيدي القوية بشكل ضعيف”.
والواقع أنه لعب بكل الأوراق الممكنة: ورقة الوطنية. ورقة الكنيسة. ورقة استعادة الدور الروسي. ورقة الحنين إلى هيبة الاتحاد السوفياتي الذي رأى أن انهياره أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. ورقة “أيديولوجيا الدولة” التي استخدمها ستالين، بحسب نيكيتا بتروف.
ومن هنا، كان التدخل العسكري في جورجيا وضمّ القرم إلى روسيا والانخراط العسكري المباشر في حرب سوريا، بحيث كانت الحصيلة “التخلّص من نتائج الحرب الباردة” واستعادة دور القوة العالمية. لا بل إن بوتين كان وراء التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، و”تفخيخ أوروبا” وإفقاد الأوروبيين الثقة بمؤسساتهم، بحسب تقرير لفريق العمل التابع للمفوضية الأوروبية.
لكن مشكلة بوتين هي ضعف الاقتصاد الروسي مقابل القوة العسكرية. وقوته هي في أنه براغماتي لا أيديولوجي. وبحسب كتاب جوشوا يافا “بين نارين: حقيقة، طموح، وتسوية في روسيا بوتين”، فإن الرجل يمثّل “اللاوعي الجماعي” لروسيا، حيث المكر هو الجسر بين الماضي السوفياتي والمستقبل الروسي”.
ومقابل الذين يقولون إنه “تكتيكي لا استراتيجي”، يقف الذين يرون أنه على العكس مخطط استراتيجي، إذ إنّ حتى تكتيكاته، حقّقت هدفاً استراتيجياً كبيراً لروسيا والصين وأوروبا: نهاية الأحادية الأميركية وعودة التعددية القطبية.
ومن حسن حظه أن كره السياسة الأميركية لدى اليسار واليمين القومي يقود إلى الدفاع عن بوتين وروسيا.
لكن الرئاسة مدى الحياة مشكلة للبلد والشعب في النهاية. فالحياة تتطوّر بأسرع مِمّا يستطيع عقل الرئيس الدائم والسلطوي اللحاق بالتطوّرات وتقدير ما يحتاج الناس إليه. والبحث عن أدوار في الخارج يقود إلى تعقيدات في لعبة التوازن بين القوى الدولية والمحلية والإقليمية كما هي حال روسيا اليوم في سوريا وليبيا. والجيوبوليتيك في الكرملين واحد أيام القيصر وأيام ستالين وأيام بوتين.
نقلا” عن أنديندنت عربية