محمد الحمامصي
لطالما مثل المثقفون العرب الصف الأول في التغيير والتنوير ولعبوا أدوارا محورية في الحياة السياسية والاجتماعية علاوة على الفكرية والأدبية والفنية، وكانوا صناع تغيير حقيقيين، وبعيدا عن تقييمات مدى نجاح التغيير الذي خطته أجيال من المثقفين العرب، فإن نظرة ولو سريعة على الواقع العربي اليوم تثبت الغياب شبه الكلي للمثقفين والتراجع الكبير لأدوارهم، وهنا نستطلع آراء مثقفين وفنانين وكتاب عرب حول هذه الظاهرة.
يعيش العالم العربي منذ سنوات تحديات تتقاذفه يمنة ويسارا، ما بين نزاعات مسلحة وتيارات دينية متطرفة وسياسات غير حكيمة، ومجتمعات تعاني الأمرّين جراء ذلك، فيما تقف النخب وفي مقدمتها النخب الثقافية دون فعالية قوية تحقق نوعا من التوازن، أو على أقله ترصد المتغيرات والتحولات وتدرسها محللة لما يعتمل بها وأبعاد تأثيره وانعكاساته.
فهل فقد المثقف سلطته سواء على مستوى الذات أو صناع القرار أو الرأي العام؟ وما الأسباب التي أدت إلى ذلك هل هي ذات علاقة بالواقع العربي العام وانهزامية المثقف أمام تحولاته؟ أم أن هناك روابط وصلات أخرى؟
انحسار دور المثقف
محمد لعزيز: المثقف العربي أضحى متنكرا بقناع المتفرج المهادن والعاجز
يقول الناقد المغربي محمد لعزيز “إذا كانت سلطة المثقف تكمن في بصيرته القادرة على التقاط الحيوية الإنسانية الأصيلة التي يحول بها الذات والمجتمع، فإن تلك السلطة عند المثقف العربي، في الغالب من الحالات، جعلته اليوم مشوش الذهن بموجب السيرورة المتسارعة لمختلف البنى الوجودية في عصر موت الواقع كما يقول بودريار”.
ويضيف “تجلى هول سقوط المثقف العربي بين التحلل من أي التزام ومن أي صراع، وانشطرت ذاته: إما بالارتماء في حوض السياسيين والتواطؤ معهم في انبطاح مؤلم، إلى درجة جعلته يلهث وراء انتفاع ريعي انتهازي. وإما بالانزواء والتفرغ للكتابة الفردية، وإما بالتوسل بالدين لمواجهة معمع الحراك الثقافي والتقدم المجتمعي، وهو في كل ذلك يكتفي بالترقيع في القول والسلوك، ويستكين للحياد واللاانتماء، وبلغة ألطف أضحى متنكرا بقناع المتفرج المهادن والعاجز”.
ويرى أستاذ علوم المسرح نبيل بهجت أن السؤال صعب محير، ولكن لممارسة السلطة المعنوية هناك إجراءات ضامنة للحماية والحرية، فهل هناك ما يضمن حرية الرأي والإعلان عنه، هناك صناعة ممنهجة للخوف واليأس تسيطر على المناخ العام في عالمنا، والمثقف جزء من هذا المناخ، لدينا المئات من القضايا التي يستيقظ المواطن ليجد قرارا فيها من السلطة المعنية بداية من التطبيع وانتهاء بإجراءات الحياة اليومية، ثم لدينا تهم جاهزة ومعلبة بدأت بالزندقة، مرورا بكل التحولات التاريخية لهذا النوع من التهم الإقصائية التي تصف أصحاب الرأي في مصاف أعداء الوطن، ومن ثم يستوجب العقاب.
نبيل بهجت: علينا أن نسأل عن ضمانات الحرية والأمان للمثقف أولا
ويضيف “لذا قبل أن نسأل عن سلطة المثقف علينا أن نسأل عن ضمانات الحرية والأمان والسلامة العامة في عالمنا العربي للاختلاف مع السلطة ومع صناع القرار. أما عن انهزام المثقف أمام التحولات فلو استعرضنا الواقع العربي من المحيط للخليج وتفكك الدول وظهور تيارات العنف والإقصاء على اختلاف بنيتها وتوجهاتها وظهور التطرف بكل أشكاله الليبرالي والقومي والديني والوطني وتحولات المصالح لدى بعض جماعات السلطة، فسنرى أن كل هذا يصيب المثقف بما هو أبعد من الهزيمة الإحباط والاكتئاب الصامت”.
ويشدد على أن السؤال أصعب من أن يجيب عليه المثقف، ففي النهاية هو إنسان له احتياجاته ومخاوفه، فهل هناك أي ضمان لأصحاب الرأي؟ معتبرا أن سؤالنا لغم متحرك سينفجر بوجه كل من يقترب منه، أو سنجد إجابة تشبه الكتابة البيضاء التي هي كالكذب الأبيض لا تنفع ولا تضر معتبرا إجابته جزءا منها.
ويشير الشاعر والمترجم الدنماركي من أصول عراقية سليم العبدلي “في حديث إعلامي له، ذكر الكاتب الاسكندنافي كلاوس ريفبياو قبيل وفاته منذ بضع سنوات، أنه لا يجد أكثر من عشرين مثقفا في هذه الدول. وقد أثار تصريحه هذا جدلا واسعا في الأوساط الثقافية، ولكني لم أجد أحدا قد تساءل من هو ذلك المثقف الذي أشار إليه ريفبياو؟ وقبل أن نخوض في السؤال عندنا إذا فقد المثقف سلطته ودوره في صنع القرار أو تأثيره في الرأي العام، علينا أن نتفق على من هو المثقف؟ هل هو كل من يكتب؟ كل من يُعَلم الآخرين؟ أم الذي لأفكاره تأثير في المجتمع؟”.
سليم العبدلي: دور المثقف هو خلق الأفكار ونقلها إلى الآخرين
ويتابع “حسب التعريف المحايد، فالمثقف هو ذلك الذي يمتلك القدرة على التفكير العلمي والنقدي الذي يزوده بالرؤية الشمولية لا الاختصاصية. أما السؤال عن دوره، فإنه ينحصر في خلق الأفكار ونقلها إلى الآخرين، سواء على الصعيد المؤسساتي أو الشخصي. وباختصار هو ذلك الذي ينتج المعرفة النقدية التي تستطيع أن تؤثر في مسار المجتمع الديناميكي، أي من الساكن ‘المحافظ‘ إلى المعاصر ‘المتقدم‘. وإن اتفقنا على مثل هذا التعريف الموجز للمثقف، فسيكون دوره محسوسا إن توفرت له ساحة أو مايكروفون أو وسيلة ما للوصول إلى زوايا المجتمع كي يتسنى له التأثير في إحداث عملية التغيير. وإن توفرت مساحات التغيير، تقدم المجتمع بأفكار هؤلاء المثقفين. ومن هنا، فإن توفر المثقف وتوفر المنبر الثقافي متلازمان لكي نحدد دور المثقف. ولذا فإنه من الخطأ أن نجزم بعدم وجود المثقف في المجتمعات المتخلفة، وإنما لنا أن نجزم بعدم وجود الحرية اللازمة في هذه المجتمعات للمثقف لممارسة دوره الطبيعي” .
ويضيف العبدلي “في الحوار مع المثقفين الأوروبيين، أجد إجماعا على انحسار دور المثقف في العقود الأخيرة، وخاصة مع مطلع هذا القرن، ويصعب العثور عليه في مجال صناعة القرار، وبذا يكون دوره غير مؤثر في الرأي العام. وفي نفس الوقت أجد إجماعا من قبل هؤلاء المثقفين على الاستمرار في العمل من أجل إيجاد المنافذ الحقيقية للتأثير في المعرفة الاجتماعية وتقدم المجتمع. ولكن أين هي تلك المنافذ، ومن هي تلك القوى التي تسيطر عليها في مجتمعات تعرّف نفسها بأنها مجتمعات حرة؟”.
ويتابع “إن كانت السلطات في المجتمعات المتخلفة تسعى دائما لتحويل المثقف، أو بعض المثقفين، إلى بوق لها، فليس بالغريب أن نعترف بأن السوق العالمية كانت ولا تزال متأهبة لاستغلال الفرص المتاحة لكي تعزز سلطتها الناعمة على المجتمعات الحرة، وتبقى سلطتها الخشنة في المجتمعات الأخرى. هذا من ناحية، أما من الناحية الثانية، نجدها، تلك السوق العالمية، سباقة في قراءة الواقع المعاش لكي تجهز له آليات تغيّر من مساراته لتخدم مصالحها، فهي تمتلك السبل، المال والنفوذ السياسي، اللذان يكفلان لها التفوق في هذا المجال، وبذا تكون أكبر قوة مؤثرة في المجتمعات أكبر من القوى الثقافية والسياسية والعلمية مجتمعة”.
منال السيد: الانهزامية لم تأت من كسل روح المثقف أو بلادته
العقاب على الحلم
يرى العبدلي أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور حركة التطهير الرجعية بقيادة السيناتور الأميركي ماكارثي، والتي عرفت باسمه في ما بعد، لم يكف الإعلام الأميركي عن محاربة المثقف المعارض، ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في جميع أنحاء العالم، وأخذ هذا المد في النمو منذ الثمانينات في أوروبا حتى وصل اليوم إلى حالة يمكن أن تشبّه بالولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا، ففي العديد من الدول الأوروبية نجد الحال نفسه، مثلا، في هنغاريا يمارس اليوم رئيس الوزراء فيكتور أوربان نفس السياسة لكي يعضد منصبه ويضمن كرسيه لفترات رئاسية متلاحقة”.
ويبين أنه اليوم لم يعد الأمر خافيا على أحد أن الاستحواذ على المنصة الإعلامية تعدى المؤسسات التقليدية، مثل الراديو والتلفزيون والصحافة، ليؤثر مباشرة على المواطن من خلال الفيسبوك وغوغل والإنترنت، التي تسيطر عليها شركات عالمية ذات رأسمال يتعدى قدرات أغنى الدول في العالم، وتمارس هذه الشركات الدور الفعال في تشويش المواطن أو في تحييده في أحسن الظروف.
ويقول “منذ القدم كان المثقف معارضا للسلطة، ومنصته كانت الإعلام، وليس بالغريب أن يطلق على الإعلام السلطة الرابعة؛ سلطة المراقبة والنقد والتقويم. إن ألمع الأسماء في الوسط الثقافي، وفي كافة العصور، كانت تمثل الصوت المعارض للسلطة، فمنذ أرسطو والمتنبي وابن رشد وكافكا وسارتر وهيغو وبارون ولوركا، وحتى إدوارد سعيد وأدونيس، لم يكونوا هؤلاء إلا معارضين للسلطة، وإن انتعشت السلطة في زمن ما، فإنها تنتعش بحجم حرية المثقف، وإن سقطت تلك السلطة، فلم يكن سقوطها إلا نتيجة لإبعاد المثقف وحنق صوته.
أشرف البولاقي: تحولات وتنازلات المثقفين سببها مطامع التحقق السياسي والإعلامي
إن إبعاد المثقف عن حجرة القيادة السياسية وصناعة القرار نجده عبر التاريخ مؤشرا لانهيار الحضارات، وهذا ما شهدته بلاد الإغريق، وما شهدته بغداد والأندلس، وفي تاريخنا الحديث ساهم ذلك وبشكل فعال في انهيار الاتحاد السوفيتي، فهل ما نشهده اليوم يمثل انهيار ما يسمى بالحضارة الغربية؟”.
وتؤكد الكاتبة والفنانة التشكيلية منال السيد أن العصر الحالي ليس هو المثالي بالنسبة إلى المثقف أو الأديب خاصة في مجتمعاتنا ومنطقتنا الجغرافية، بعد سنوات الربيع العربي وما تفتحت خلالها من زهور نمت في جنات خيال، مجرد خيال، أننا سنحيا بحرية وكرامة، لنصحو جميعا على ما يعيشه المثقف الآن. عودة عنيفة للوراء بقدر قوة وهدير الارتفاع والتحليق بالحلم العربي، بقدر عنف الارتطام بالواقع الحالي. وتعتقد أن سنوات كتاباتها الأولى في التسعينات كانت أكثر حرية وتحليقا من الآن، مشيرة إلى أن هناك عقابا على الحلم كان مؤلما حتى لا نفكر في تكرار ذلك.
وتقول “إن صناع القرار الآن لا يعيرون بالا بالإنسان مادام ليس من ذوي السلطة أو المال الوفير، ما عدا ذلك نحن حتى أقل من الأرقام، ربما من أجل ذلك نعود لذواتنا. نعود لأعيننا، لخيباتنا الصغيرة، ونترك السفينة تبحر في الليل لا نعرف إن كانت هناك أرض في الأفق أم لا، لدينا أسرّتنا ومواقد طعامنا الصغيرة وكفى. الخوف عاد للأسف. مدينة الخوف والعقاب لا مرونة فيه آت وأبدي. ورأيناه في كثير ممن حاولوا النطق بأي رغبة أو اقتراح للتغيير”.
عمر الصوفي: الصورة والهالة النمطية المتوارثة للمثقف تخلخلت
وتتابع “الانهزامية لم تأت من كسل روح المثقف أو بلادته، لكنه الواقع. مئة طاحونة تهرس يومه. مخاوف من الآتي وعجز ينمو عن مواجهة أساسيات بديهية للحياة. صراع واستهلاك طاقات من أجل إنارة غرفة الفنان بالكهرباء أو إشعال موقد طعامه أو مرور ابنه من امتحان دراسي ما. أشياء تافهة وعظيمة. ماذا بقي لهذا المثقف لكي يؤثر في صناعة القرار. شيء مضحك قليلا يا ليته يستطيع أن يؤثر في صنع دائرة صغيرة جدا حوله رحيمة قليلا، فقط كي يمارس متعته الوحيدة في رؤية العالم بنقاء وإنتاج قطع فنية نظيفة بعد كل هذا الضجيج المؤلم المحيط به، وليترك السفينة تبحر بمديري دفتها الصارمين حيث أن آخر ما يحتاج إليه هؤلاء الصارميين هو رأي مثقف يجد صعوبة في إنارة غرفته أو إشعال موقده”.
المشهد يبدو قاتما
يلفت الكاتب أشرف البولاقي إلى ضرورة مواجهة أنفسنا بالحقائق، ويقول “لم يعد المثقف قادرا على ممارسة أي سلطة، وفقد تأثيره الحقيقي سواء على صانع القرار أو على الرأي العام، ويبدو وكأنه يحرث في بحر. وأسباب ذلك كثيرة ومتعددة، ربما كان أهمّها على الإطلاق تراجع القيمة التي تمثلها الثقاف%