صالح البيضاني
يمر المشهد السياسي والعسكري والاقتصادي في اليمن بمنعطف حاد بعد مرور سبع سنوات من الحرب، ولا تبدو تلك التحولات مصطنعة بقدر ما هي نتائج طبيعية لسنوات الحرب والصراع السياسي الذي ترافق مع تغيرات اجتماعية وثقافية وحتى اقتصادية، كان آخر مظاهرها تصاعد حدة الفقر إلى درجة غير مسبوقة مع انهيار العملة اليمنية ما يؤذن بمجاعة وشيكة.
وخلال الأيام القليلة الماضية راج مصطلح “إعادة التموضع” بين اليمنيين تعليقا على انسحاب القوات المشتركة من تخوم مدينة الحديدة تنفيذا لاتفاق السويد، وامتد هذا المصطلح إلى مناطق أخرى في المشهد اليمني، فقيل تعليقا على بعض المواقف إنها تحاول إعادة تموضعها سياسيا على خارطة الصراع اليمني.
وفي حقيقة الأمر يمكن التأكيد على أن أحد أبرز ملامح التحولات الحادة التي يشهدها الملف اليمني هي التموضع عسكريا وسياسيا، كحصيلة لسبع سنوات من الحرب أعادت تشكيل خارطة القوى والمكونات والنفوذ بشكل قد يكون انعكاسا لحالة التشظي التي شهدها اليمن منذ العام 2011 وتصاعدت بعد الانقلاب الحوثي في سبتمبر 2014 وبلغت ذروتها مع اندلاع الحرب في مارس 2015.
وإذا ما أمعنا النظر في خارطة القوة والتموضع التي باتت عليها خارطة اليمن الجيوسياسية، نجد أنها مقسمة بين أربع قوى حقيقية على الأرض مع بعض التباين في حجم هذه القوى وسيطرتها على الأرض، حيث نجد أن ما تبقى من منظومة الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح السياسية والثقافية والاجتماعية والعسكرية تغلبت على كل محاولات الإلغاء واستطاعت إعادة تموضعها وبناء مؤسساته بشكل جزئي وتجميع شتاتها في الساحل الغربي تحت عناوين جديدة وواجهات حديثة، الشق العسكري يحمل عنوان “قوات المقاومة الوطنية”، وهي مزيج من قوات الجيش اليمني السابق ووحداته الأمنية، والواجهة السياسية أخذت عنوان “المكتب السياسي” بقيادة ابن شقيق الرئيس السابق العميد طارق صالح، وبمشاركة سياسيين من الصف الثاني في حزب المؤتمر وبعض الأوفياء للنظام السابق ونهجه السياسي.
وفي المقابل انحسرت طموحات حزب الإصلاح أو الإخوان الذين كانوا يسعون لخلافة صالح ووراثة دولته بفعل صراع عسكري مرير وسوء إدارة وتنمر حوثي، وعداوات متراكمة واقتصرت محاولات الإخوان بعد سبع سنوات من الحرب على الحفاظ على نموذجهم الخاص الذي بنوه في مأرب وشبوة، وبشكل أقل في تعز، مع تزايد التحديات الداخلية في مواجهة الحوثي شمالا والانتقالي جنوبا وهبوب رياح التغييرات الإقليمية، التي كانت أبرز نتائجها انحسار نفوذ الإخوان في السودان وتونس ومؤخرا تركيا.
وفي المقابل يسعى المجلس الانتقالي الجنوبي في ظل هذه المعطيات والعناصر السياسية والعسكرية والتغيرات الإقليمية لوضع لبنات البنية التحتية لدولة الجنوب المنتظرة التي يطالب بها من خلال العمل على بناء أجهزة ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية موازية لكل تلك التي ورثها عن مرحلة الوحدة، ومن ثم الشرعية وتحين الفرصة المناسبة لإقناع الإقليم والعالم بمشروعه الذي تعترضه بعض الصعوبات وفي مقدمتها منافسة تيارات ومكونات أخرى له داخل النطاق الجيوسياسي الحيوي له المتمثل في المحافظات الجنوبية المحررة، حيث يسيطر الإخوان على شبوة وجزء من حضرموت وتكافح قوي جنوبية أخرى من تحت عباءة الشرعية آو الدعم الخارجي للبحث عن موطئ قدم لها في حضرموت والمهرة.
وأمام هذا الصراع السياسي والعسكري القوي الذي يعتمل في جبهة الشرعية، يعمل الحوثيون على تعزيز حضورهم في شمال اليمن ثقافيا واجتماعيا وإحداث تحول مجتمعي حاد لصالح مشروعهم المدعوم من إيران والمعادي لدول المنطقة، كما يضغطون لإكمال سيطرتهم على الشمال عبر إسقاط مأرب لفرض واقع جديد، ونقل التوتر في مرحلة لاحقة إلى الجنوب من خلال أدوات استخباراتية وسياسية في المرحلة الأولى، والتحضير لاجتياح الجنوب مجددا إذا توافرت العوامل الداخلية والخارجية المواتية لهذا الأمر.
وعلى هامش هذا الصراع لا يبدو أن حظوظ وفرص بعض المكونات الأخرى الهامشية قادرة على اختراق مربع القوة الذي تكون على الأرض خلال سبع سنوات من الحرب في اليمن، ومن ذلك بعض المكونات القومية واليسارية أو التيارات الجنوبية التي تعمل اليوم من تحت عباءة الشرعية لاستهداف الانتقالي بالشراكة مع الإخوان أو تلك المكونات المدفوعة من قوى إقليمية لإحداث خلخلة في مسار الملف الجنوبي.
وبموازاة ذلك وعلى صعيد الثقل الإقليمي تبدو أربع دول إقليمية حاضرة في الملف اليمني بقوة وهي، السعودية التي تدعم الشرعية كواجهة سياسية مناهضة للحوثي، والإمارات التي تعد الداعم الرئيسي لمكونات الانتقالي، وقوات المقاومة المشتركة في الساحل الغربي، بينما تقف إيران بثقلها العسكري واللوجستي خلف القدرات النوعية الحوثية وفي المقابل يتوزع الدعم القطري بين الإخوان والحوثيين في تناقض هائل يفاقم من حالة الانقسام اليمنية.
ولا يخفى الدعم السياسي والدبلوماسي الذي تقدمه مسقط للحوثيين بالتنسيق مع الدوحة لتحقيق مصالح وحسابات خاصة بعضها تاريخي والبعض الآخر سياسي واقتصادي، وفي مجملها صراع على النفوذ التقليدي في اليمن، ومن ذلك ما يحدث في محافظة المهرة على سبيل المثال، حيث تميل كفة السيطرة عليها لصالح تحالف حوثي – جنوبي ممول قطريا وعمانيا.
وتعد المهرة النموذج الأبرز في سياسة خلق مناطق للمصالح والتشبيك المعتمة بين أطراف الصراع اليمني، التي ترتبط في أحد أشكالها المتطرفة بالمشروع الحوثي الذي يتم التسويق له كصورة للسيادة الوطنية في مسعى لتبرير حالة التخادم مع أجندته التي يشارك فيها أطراف وشخصيات تزعم انتماءها إلى معسكر الشرعية، ولكنها تساهم سرا وعلنا في تقديم خدمات لوجستية واقتصادية وسياسية هائلة عززت المشروع الحوثي، وقد تجلت أبرز نماذج هذه المناطق المعتمة في المهرة في شخصيات مثل الشيخ القبلي علي سالم الحريزي الذي يحظى بدعم حوثي وغطاء إخواني في نفس الوقت، وهو نموذج تسعى قطر وعُمان لتكراره في محافظات جنوبية أخرى مثل شبوة وحضرموت عبر شخصيات يجمعها العداء للتحالف العربي والمجلس الانتقالي، في نفس الوقت، وتظهر الولاء للشرعية وتخفي العلاقة بالحوثي أو لا تعتبره على رأس قائمة أعدائها.
نقلاً عن العرب اللندنية