عصام خليدي
باحث وناقد فني
الفنان اليمني الكبير محمد سعد عبـدالله صـاحب التـجربة الغــنائيــة المــوسـيقية (الإستثنائية والشاملة المغايرة) في مسار تاريخ الغناء اليمني الحديث و المعاصر، فـنـان أستطاع الـتـألـق والـتـفـرد بتـجـاربـه وعطاءاته ونتاجاته الإبداعية التي تـجسدت في مـعـايـشة ومـحاكـاة ومـلامسة هـموم ومـعانـاة وقـضايـا المجتمع اليمني وأرتبطت إرتباطـاً وثيـقـاً بـأدق تفاصيل حـياتـنا الـيومـية روحـياً – عـاطـفياً – رومـانسـياً – وطـنـياً – ووجـدانـياً .. نجح بن سـعـد فـي تـحـقـيق حـالـة ( التماس والتـوحـد ) الفني / الثقافي / الوطني / الإجتماعي / الفكري والإبداعي مع مختلف شرائح وفـئات وطبقات الشعب اليمني ، فـترجم ذلك أشعاراً والحاناً مضمخة بأسمى وأعظم المشاعر والأحاسيس الإنسانية النابضة والعميقة التي قدمها خلال مشواره الفني الزاخر والحافل والمتجدد فأمتع وأسعد عشاق فنه ومحبيه من المستمعين المتذوقين للغناء والطرب الراقي والأصيل في داخل الوطن وخارجه ، ليؤسـس مدرسة غنـائية مـوسـيقية (مستـقلة) أستوعبت وأجادت ببراعة وإتقان كل أنماط وأشكال الموروث الغنائي اليمني الهائل والضخم ، بل أنه تجاوز ذلك بإشتغالاته المبتكرة والمتميزة بالتعاطي والتعامل بأدواته الغنائية الموسيقية مع (الحداثة والتجديد ) في الغناء اليمني ويمكنني القول أن الفنان الكبير محمد سعد عبدالله أستطاع أن ُيصبح ( معجم الغناء اليمني بفن الأصالة والمعاصرة).
لــذلك أجدني كل عام إحتفاءً في ذكرى ميلاده أو رحيله أختار شقاً وجزءاً هاماً ومحوراً جديداً من تجربته الغنائية الموسيقية ثرية المعالم والمضامين والدلالات نغمياً / مقامياً / وإيقاعياً..، في هذا السياق سنعرج بشكل موجز مقتضب على أهم الإنجازات الغنائية في مشواره الإبداعي الطويل ثم سنستـعرض (خمسة محاور هامة) حفلت بها تجربته الفنية تباعاً .
تألق في ألوان الغناء اليمني :
قدم الفنان محمد سعد عبدالله كل ألوان الغناء اليمني : الصنعاني / اليافعي / الـعــدني / الحضرمي / اللحجي بإجادة وبراعة وإقتدار ( شاعراً وملحناً ومؤدياً من الطراز الأول ) .
أغـنيات رائـعـة أفـتقدنـاها :
قام في بداياته الأولى بتسجيل وتوثيق أغنيات خالدة قدمها لمجموعة من كبار شعراء الأغنية اليمنية منهم الأساتذة يـوسف مـهيوب سـلطان / د- مـحمـد عبده غانم / محـمد سعيد جرادة / لطفي جعفر أمان / إدريس حنبله / علي أمان / علي عوض المغلس .. وآخرين حفرت في ذاكرة ووجدان وذائقة المستمع اليمني والعربي إضافةً للنصوص الغنائية الجميلة التي صاغها لنفسه، كل هذه الأعمال المتميزة الأصيلة لم نـعـد نستمع إليها في أجهزة الإعلام اليمنية المختلفة منذ زمن بعيد تجاوز عشرات السـنـين منها على سبيل المثال الأغاني التـالـيـة: بـنـور جـمـالـك / موشح ياساري البرق / من الهوى يازين / ياظبي من شمسان / سل فؤادي الحزين / ليش هذا الهجر / لما متى مايستمع لي مايجيب / بالغواني / ياساحر عيون الناس / ياخاين .. ياخاين / ماله كذا طبعك / لا بكى ينفع / يعادوني / أنا وقلبي / قولي ليش الجفا / محلا السمر جنبك .. وغيرها من روائع الغناء اليمني .
ريادة وتنوع في الإبداع:
ساهم بن سعد بفعالية في تأسيس وإبراز ملامح وهوية قوام وبنيان ( الغناء العدني التجديدي الحديث ) ومن أبرز أعماله التي قدمها على سبيل المثال لا الحصر : هاجري حبه / محلا السمر جنبك / أنا ماطيف / ردو حبيبي وروحي / بنور جمالك / جدد أيام الصفاء / سلام لله يا قاسي / سلام كثير/ لـيش هـذا الهجر / سل فؤادي الحزين / أنا أقدر أنساك / نظرة / مع النسيم لو مر / يا ظبي من شمسان/ كلمة ولو جبر خاطر / يا طير ياذا المعلي / فتاة الريف / أعز الناس / ماله كدا طبعك / غيروك الناس/ لهيب الـشـوق .
تـنـاول العديد من القوالب والأشكال الغنائية الموسيقية في أعماله ونتاجاته الإبداعية أهمها المواضيع التالية:
الأغـنيـة الوطـنيـة / الأغـنـية الـعـاطـفيـة / الأغــنيـة الرمــزية / والأغنية الموضوعـية ..
وغيرها من الإشتغالات الجادة ذات الرؤى الإبداعية والإنسانية التي تعالج قضايا المجتمع وتبرز همومه وتطلعاته فترجم ذلك الحاناً وقصائد غنائية واكبت ودونت وحفظت أهم الأحداث والوقائع في تاريخ أمته .
كان الفنان الخلوق المبدع محمد سعد عبدالله (المؤشر الحقيقي والمقياس النابض الصادق ) لكل ملاحم الشعب اليمني النضالية والبطولية فقد أستطاع أن يجسد ويعبر عن كل تلك الإرهاصات والإنفعالات – الإنتصارات والإنكسارات بصور فنية مختلفة وهاجس إبداعي راقي رصد به ووثق تاريخ مآثر وملاحم أمته وشعبه ووفق بنجاح مـنقطع النظـير في أن ( يوقف دوران عجلة الزمان والمكان بلحظة إبداعية صادقة خالصة منحها وأعطاها من روحه الديمومة والخلود لتبقى راسخة في سجلات تاريخ الوطن وذاكرته الأبدية ).
فمن منا لا يتذكر أغانيه الشاهدة على الأحداث والأزمنة المتعاقبة:
قـــال بن ســعـد / يا بـلاد الــثائرين / يــوم عــشـرين / بـايـذوق الــبرد من ضيع دفاه / أنا شعبي ثـائـر / مــطالب شعب / مـسكـين الجمل يعصر / وحـدويــين / حـادي الـعـيس..
تـعـاون فـنـي مع قـطـبي الـغـناء :
تعاون بن سعد فنياً ( كشاعر غنائي ) مع قطبي الغناء اليمني الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم وفنان الشعب محمد مرشد ناجي فأثمر اللقاء بعملين رائعين من الحانهما الأول بعنوان ( كلما تخطر ببالي ) والأخر ( قائد الجيش البريطاني ) كما قدم للمبدع محمد صالح عزاني كلمات أغنية ( فين التقينا ) الذي قام بتلحينها ( الموسيقي) فيصل عبد العزيز وللفنان عصام خليدي قدم النصوص التالية: فل نيسان / حادي العيس / مطالب شعب وُسجلت لأجهزة الإعلام اليمنية بالحان الخليدي ، كذلك قدم من كلماته والحانه للفنانين سعيد أحمد بن أحمد أغنية (خاف الله) وأحمد يوسف الزبيدي أغنية ( حنين إلى الوطن ) بالإضافة للعملين الرائعين التي قدمهما للفنانة العربية هيام يونس أغنية ( ساكن وسط قلبي ) وأغنية ( الدلع ) وقدم العديد من القصائد والألحان لفنانين آخرين.
أستخدم العديد من المقامات العربية الشرقية والغربية في أعماله الغنائية على سبيل المثال: مقام الكرد / البيات / العجم / النهوند / الحجاز كاركورد / ومقام الراست بدرجاته الدو ، الفا ، والصول بالإضافة لتعاطيه لكثير من الإيقاعات اليمنية والعربية وإيقاعات أمريكا اللاتـيـنية مثل : الرومبا / الفالص / السامبا.. وغيرها .
المحاور الغنائية الموسيقية الخمسة في تجربة بن سـعـد.
أولاً: صـوت قـوي وملـكات متـفـردة
أمتلك الفنان المبدع محمد سعد عبدالله صوتاً دافئاً حنوناً صافياً وقوياً مشحوناً بالعُرب والحليات الصوتية المتفردة وممزوجاً بالشجن والرقة والعمق والعاطفة الجياشة المتدفقة وأستطاع بما حباه الله من طبقات صوتية قوية متباعدة ومتناغمة وخامة عريضة ( مطواعة ) أن يجيد بإقتدار ومهارة أداء كل ألوان الغناء اليمني والعربي ( بشكل أخاذ مبهر مقنع ) لكل الأذواق بل أنه أستطاع في كل لون يغـنيـه أن يصبح واحداً من مشائخه وأساطينه البارزين.
تانياً: الـغـنـاء الصنعاني والتفوق الاوركسترالي
نجح الفنان المتألق محمد سعد عبدالله بتفوق وإمتياز في تقديم الموشح اليمني (الأغنية الصنعانية) مع الفرق الموسيقية الأوركسترالية العربية دون أن يفقدها مذاقها وملامحها وخصائصها الفنية والتاريخية بل أنه ُيـعـد أكثر الفنانين اليمنيين (أمانة وإتقان وحرفية) في تنفيذ وتقديم وأداء الموشح اليمني بخصوصيته وبمقاماته وأوزانه وإيقاعاته المتفردة بشكل منهاجي علمي متطور على المستويين المحلي والعربي فمن منا لم يستمع ويستمتع بأعماله التراثية اليمنية التي قدمها مع الفرق الموسيقية المحلية والعربية بتكنيك عالي ومهنية وبراعة موسيقية ( فـذة ) نتــذكـر منها على سبيل المثال:
يقرب الله / حوى الغنج / أمير الغـيـد / وسط صنعاء / غزال الـبـيـد.
وجديراً بالإشارة أن بعض هذه الأعمال كتبها نصاً وقام بتلحينها بنفسه ليجعلها إرثاً فنياً يمنياً.
ثالثاً: عازف عـود من طراز نـادر
يعتبر الفنان القدير محمد سعد عبدالله من أشهر وأفضل عازفي ( آلة العود ) المجيدين والمتمكنين فقد أتسم أسلوبه في العزف ( بتكنيك فني عالي المستوى) وتفردت ريشته برشاقتها وسرعتها بالإضافة لقيامها بمهمة ودور الإيقاعات أثناء عزفه على آلة العود.
رابعاً: قـمـة النـضـوج الـفـنـي
أستطاع أن يقدم الحاناً جديدة تميزت بثراء وعمق وأصالة وتطور تجربته الغنائية الموسيقية وشكلت ( بتطورها الغنائي الموسيقي تراكماً إبداعياً خلاقاً أضافت لرصيده الإبداعي الضخم ) ، الذي ظل سريانه متدفقاً مستمراً متوهجاً بالعطاءات المتألقة حتى أخر رمق في حياته إلى أن توفاه الله بمعنى أن بن سعد لم يتوقف عطاءوه في الخمسينات والستينات من العصر الذهبي للأغنية اليمنية ( كبقية أو بعض من جايلوه وجاءوا من بعده بل على العكس قدم أعمالاً كبيرة مهمة في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي)
وظل مبدعاً وقادراً ومتميزاً كعادته وديدنه في نتاجاته الأخيرة التي قدمها وللأسف لم ُتسلط عليها الأضواء إعلامياً كما يجب وينبغي وأجزم أنه في بعض الحالات تفوق بها على ( ذاته إبداعاً وخبرة وحنكة).
ولعلنا نتذكر هذه الأغنيات الحاليات العذاب التي وشمت على جدار وذاكرة الزمان والمكان في مدينة عدن والجزيرة العربية والخليج بل والوطن العربي بأسره:
جــوال / على كيـفـك / ليش أستويت حساس / إيـش هـمني / وعـد الـحـر ديـن / وحـدويين / السر مكنون / خلاص حسك تقولي روح / ياللي ماتسأل علينا / تجيني / من زمان أشتي أقــولك / إيش صار بينك وبيني .
اللافت عند قراءاتنا الموسيقية لأعمال الفنان العملاق محمد سعد عبدالله نكتشف مواطن إبداعية متعددة وجديدة في غاية الأهمية والجمال تحمل قيم الفن الحقيقي والأصالة، ونحن حتى هذه اللحظة لازلنا متطلعين عاشقين شغفين لقراءات متعددة والغوص في سبر أغوار عوالمه الساحرة التي لا زالت( بكراً) تنتظر من يكتشف أسرارها وخباياها وكنوزها التي لا تقدر بثمن .
خامساً: الإيـقـاع الـسـعـداوي
نُـسب الإيقاع الشرحي (6/8) الثـقـيل والمتميز ببعض ضغوطاته إلى مدرسة الفنان محمد سعد عبدالله بسبب براعته في إستخدامه بألحانه وُعـرف وسمي فـنياً بالإيقاع ( السعداوي).
كلمــة لابد منها:
من خلال العلاقة الإنسانية والفنية الوطيدة التي جـمعتـني بالفنان (الشامل) محمد سعد عبدالله في بداية التسعينات من القرن الماضي وأثمرت بظهور تـعـاون فـني غـنائي مشترك تم توثيقه في أجهزة الإعلام (إذاعة وتلفزيون عـدن) أعتز به كثيراً في تجربتي الغنائية الموسيقية الشخصية، في السنوات الأخيرة من حياته كان يخصني في حديثة بما يعاني من جحود ونكران وضغوطات وصدمات نفسية ومعنوية قاسية للغاية تعرض لها في تلك الفترة الصعبة بسبب (التصنيفات والتوصيفات) التي وضعت حوله من بعض المتسلقين المتطفلين (أعـداء النـجـاح).. منهم من حاول التشكيك في قدراته كشاعر غنائي بعد مشواره الفني الحافل والطويل سامحهم الله والأكثر قسوة وضراوة كما حدثني رحمه الله تلك الشائعات التي جردته دون وجـــــه حـــق من وطنـيـته لــــكـــن وللأسف ( شـائـعـاتـهم ).. أصابته بمقتل .. وفي الواقع أن ولاء وإنتماء بن سعد لم يكن في أي وقت من الأوقات إلا لأرضه وشعبه فهو في فنه الأصيل الراقي وعزة نفسه وشموخه ونضاله وعطائه الإبداعي كـان و سيظل (مـلـكـاً) مـتـوجـاً على كل الأفـئـدة والقلوب …
اليوم وبمرور كل هذه السنوات على رحيله نتساءل هل حظي ( أبو مشتاق) بما يستحق من التقدير والإهتمام بدراسة وتجميع وتوثيق تاريخ مسيرته الغنائية الموسيقية الإبداعية والقيام بتبني ورعاية أسرته المكلومة الحزينة ذلك على أقـل تقدير وفـاءً وعـرفـانـاً لما قدمه للوطن …؟!! الإجابة يعلمها القريبون والبعيدون … إهمال إستجداءات … تصريحات … ووعـود…؟!!