الأندبندنت / محمد طاهر
خلال الأشهر الأخيرة من عام 2002، شهد العالم تفشي أولى جائحات القرن الحادي والعشرين العابرة للقارات: فيروس “سارس”. انتشرت الجائحة من مكان ما جنوب الصين، وزهقت أرواح مئات الأشخاص حول العالم. آنذاك، تكتمت الحكومة الصينية على خبر تفشي “سارس”. لكن “جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني” (المعروف اختصاراً باسم “بي إن دي”) الذي كان يدير على ما يبدو حملة تنصت سرية على مكالمات الحكومة الصينية واتصالاتها اللاسلكية تمكن من اكتشاف الأمر، وقدم لحكومة برلين وسلطاتها الصحية ملفاً كاملاً حول “سارس” قبل أسابيع من إعلان بكين رسمياً عن انتشاره. لم يمنح “بي إن دي” معلومات حول تفشي الفيروس فحسب، بل كشف استراتيجية الصين للتستر على انتشاره داخلياً وخارجياً.
تتصرف أجهزة الاستخبارات الأميركية لدى معالجتها تعقيدات أزمة “كورونا المستجد” اليوم، بطريقة تكاد تكون مطابقة لتلك التي اتبعتها “بي إن دي” منذ قرابة عقدين من الزمن. إذ ترددت منذ أيام قليلة، أنباء مصدرها كواليس العاصمة واشنطن تفيد بأن جون راتكليف، مدير “الاستخبارات الوطنية” والمسؤول عن جميع وكالات الاستخبارات الأميركية الـ17، وجّه تحذيراً إلى البيت الأبيض حول جدية مخاطر انتشار الفيروس انطلاقاً من مدينة ووهان الصينية. لكن تقارير إعلامية ذكرت لاحقاً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفض التسليم بهذه التحذيرات. وبذا يمكن اعتبار أن سوء التعامل الأولي الأميركي مع تفشي كورونا داخل البلاد لم يكن فشلاً استخباراتياً، بمقدار ما هو أحد أسوأ وأخطر الإخفاقات السياسية في تاريخ الولايات المتحدة.
ولا تعد مهام جمع المعلومات حول “كورونا المستجد” من مسؤولية “وكالة الاستخبارات المركزية” المعروفة باسم “سي آي إيه” وحدها، فالولايات المتحدة تمتلك جهاز استخبارات خاصاً بالمعلومات الطبية والصحية، يعرف باسم “المركز الوطني للاستخبارات الطبية” (NCMI) الخاضع لوصاية “وكالة الاستخبارات الدفاعية”. وفي سبيل جمع معلومات حول فيروس “كورونا المستجد”، تستخدم أجهزة الاستخبارات الأميركية مروحة واسعة من الوسائل تتعدى متابعة التقارير الرسمية ووسائل الإعلام ومصادر الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي. فإضافة إلى كل ما سبق، تستعين الأجهزة الأميركية بجميع أدوات التجسس الأخرى، بدءاً بصور الأقمار الصناعية وانتهاءً بالعملاء والمخبرين مروراً بالتنصت على شبكة الاتصالات. ويُجمع الخبراء على أن الولايات المتحدة تستخدم اليوم أذرعها الاستخباراتية خصوصاً في الصين وإيران، للحصول على معلومات سرية في ما يخص “كورونا المستجد”. ويتم ذلك عن طريق سؤال عملائها المزروعين داخل القيادة الصينية أو مخبريها لدى وزارة الصحة الإيرانية، عن الأرقام الحقيقية غير الرسمية للمصابين، وطرائق الانتشار غير المعروفة للعدوى، واستراتيجيات مكافحتها. وبذلك تقوم أجهزة الاستخبارات خلال أزمة كورونا بما يتوجب عليها فعله دائماً: تقديم معلومات إلى صانع القرار لا يمكن للآخرين الوصول إليها، إضافة إلى تقييم الأضرار السياسية والاقتصادية لانتشار الفيروس والتعرف إليها، ومكافحة حملات التضليل واللوم المتبادلة حول التسبب في ظهور الجائحة العالمية.
كورونا يهدد الأمن القومي
يشكل فيروس “كورونا المستجد” الذي يجتاح أصقاع العالم اليوم، أكثر من مجرد حالة طوارئ صحية عامة. فهو يعد تهديداً غير مسبوق للأمن القومي والدولي. وبالتالي فإن محاربته أشبه بحرب عالمية ستسفر عن خسائر جسيمة اقتصادية واجتماعية وبشرية. وتلعب أجهزة الاستخبارات في هذه الحرب الكونية دوراً رئيساً في المواجهة إنما في الظل، كما سبق لها وفعلت في حروب قتالية سابقة عبر التاريخ. وبهذا الصدد، يقول كالدر والتون، الباحث المتخصص في التاريخ والخبير المتخصص في علوم الاستخبارات العسكرية في كلية هارفارد كينيدي، في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية في عدده الصادر يوم 3 أبريل (نيسان)، إن ثمة طرائق تساهم بها أجهزة الاستخبارات في الحرب ضد فيروس “كورونا المستجد”. تتلخص أولاها، بتقديم تقييمات لصنّاع القرار السياسي حول انتشار الفيروس وتأثيره. ضمن هذا المجال، تمتلك الاستخبارات الأميركية وكالة متخصصة تقف في الصفوف الأمامية لمحاربة “كورونا المستجد”، هي “المركز الوطني للاستخبارات الطبية” ومقره في فورت ديتريك بولاية ماريلاند. يتعاون هذا المركز مع خبراء الأوبئة وعلماء الفيروسات وغيرهم في تبادل المعلومات الحساسة حول الفيروس، ومثل سلفه في الحرب الباردة، يعمل المركز باعتباره عين أميركا وأذنها عندما يتعلق الأمر بأي تهديد بيولوجي.
الطريقة الثانية التي تساهم بها أجهزة الاستخبارات في محاربة “كورونا المستجد” هي سرقة الأسرار، عن طريق كشف المعلومات التي يريد الآخرون الاحتفاظ بها سراً. أما الهدف فهو تزويد السياسيين بمعلومات نادرة حول أسرار الدول الأخرى المتعلقة بالفيروس، بما في ذلك دقة أرقام الإصابات التي تعلنها الحكومات رسمياً. هذه الأسرار مهمة بشكل خاص بغرض كشف حقيقة ما يجري لدى الدول المغلقة مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية. ووفقا لتقديرات الاستخبارات الأميركية، أخفت الصين مدى تفشي الفيروس في بداياته، في حين كان أعلنت روسيا أرقاماً رسمية منخفضة بشكل مثير للريبة قبل أن تفرض حظراً صارماً على أي معلومات. ويأتي جزء من هذه المعلومات الاستخباراتية من جواسيس ومخبرين، وجزء آخر عبر تجنيد تقنيات الذكاء الصناعي، وثالث عن طريق صور الأقمار الصناعية.
معركة القوة الناعمة
ثالث الطرق التي تلعب فيها أجهزة الاستخبارات دوراً مهماً هو مكافحة التضليل. إذ تشتبك بكين وواشنطن حالياً في معركة دعائية حول أيهما يقود العالم نحو هزيمة فيروس “كورونا المستجد”. من الناحية الجوهرية، تهدف هذه المعركة إلى إثبات أي نوع من الحكومات، ديمقراطية أو غير ديمقراطية، يمكنها حماية مواطنيها بشكل أفضل. ومع تصدر الولايات المتحدة العالم في معدلات الإصابة والوفيات جراء كورونا، بدأت كفة “معركة القوة الناعمة” تميل لمصلحة الصين. سبق ذلك، محاولة صينية علنية لتشويه سمعة الولايات المتحدة، عندما روجت بكين “نظرية مؤامرة” مفادها أن الجيش الأميركي صدَّر فيروس “كورونا المستجد” إلى ووهان. ويقول خبراء أميركيون إن الإدعاء الصيني خاطئ، وهو في الواقع تكرار “مشوه” لنظرية المؤامرة التي أطلقتها الاستخبارات السوفياتية “كي جي بي” خلال الحرب الباردة، والتي تمحورت حول أن الجيش الأميركي طوّر فيروس نقص المناعة “الإيدز” داخل “معهد البحوث البيولوجية الأميركي” في فورت ديتريك، ضمن عملية سرية أطلق عليها الاسم الكودي (Infektion). ومن المفارقات، أن معهد البحوث المذكور هو سلف “المركز الوطني للاستخبارات الطبية” الذي يقف الآن في الخطوط الأمامية للمواجهة مع “كورونا المستجد”. وبالتالي ثمة تقاطع بين نظريتي المؤامرة السوفياتية والصينية حول نشر الولايات المتحدة للفيروسات القاتلة.
آخر الطرق التي يمكن أن تساهم بها الاستخبارات في مكافحة “كورونا المستجد” وغيره من الأوبئة هي المراقبة. هنا، تتمتع الأنظمة المركزية بمزايا هائلة تتفوق على الديمقراطيات الليبرالية الغربية، التي تُعلي حكم القانون والحريات المدنية. فقد قامت الصين بعمليات مراقبة جماعية لمواطنيها لمواجهة كورونا، بدءاً باستخدام مُعرِّفات رقمية وصولاً إلى تقديم مكافآت لمن يبلغ عن جيرانه المصابين. على النقيض من ذلك، لم يبدأ الأميركيون حتى الآن مناقشاتهم العاجلة حول مدى استعدادهم لانتهاك خصوصيتهم لحماية الصحة العامة من خلال تتبع المصابين بالعدوى. بالمقابل تستخدم إسرائيل، وهي أحد حلفاء واشنطن المقربين، برنامجاً للمراقبة الرقمية على مستوى الدولة يستخدم تقنية برامج تجسس مصممة أصلاً لمكافحة الإرهاب، بإمكانها تتبُّع هاتف أي شخص مصاب لرسم خريطة للعدوى.
دروس مستفادة
من الآن وحتى العثور على لقاح مضاد للفيروس، وهو أمر يُرجح أن يستغرق عاماً على الأقل، يحتاج الأميركيون إلى تحديد ما إذا كانوا مستعدين لتبني تدابير مراقبة صارمة مثل إسرائيل أم لا. لكن الرياح قد تجري عكس ذلك، فقد انتقد جوناثان سومبشن، القاضي السابق لدى المحكمة العليا في بريطانيا، شرطة بلاده لأنها وبخت علناً أشخاصاً يمارسون الرياضة في الحدائق العامة ضدّاً عن رغبة الحكومة. وكما لاحظ سومبشن، فإن قوة الشرطة التي تفرض رغبات الحكومة، من دون اتباع سيادة القانون هي تعريف واضح وصريح للدولة البوليسية.
على أي حال، تحدد الطرق الأربع المذكورة أعلاه كيف يمكن لأجهزة الاستخبارات المساهمة في هزيمة الجائحة. وعندما ترفع السرية مستقبلاً عن الوثائق المتعلقة بحالة الطوارئ الصحية اليوم، فمن المرجح أن تكشف أن أجهزة الاستخبارات كانت تساعد حكوماتها من خلال إجراءات سرية يمكن إنكارها. فعلى سبيل المثال جرى تداول تقارير تفيد بأن الموساد الإسرائيلي أجرى عملية سرية لشراء أجهزة اختبار فيروس “كورونا المستجد” وأجهزة تنفس صناعية من الخارج. وليس صعباً تخيُّل دول أخرى تقوم أجهزتها بعمليات مماثلة. في نهاية المطاف، تبقى أجهزة الاستخبارات الملاذ الأخير للدول ذات السيادة.
أما بالنسبة إلى المستقبل، فمن المؤكد أن الحكومات في جميع أنحاء العالم ستتأهب للحصول على نوع جديد من المعلومات الاستخباراتية لمكافحة الأوبئة لضمان عدم تعرضها للمفاجأة مجدداً. ومثلما أدت الكوارث السابقة للأمن القومي الأميركي، مثل هجوم بيرل هاربر وهجمات سبتمبر، إلى إصلاح شامل في الاستخبارات الأميركية للتأكد من عدم حدوثها مرة أخرى، فإن “كورونا المستجد” سيفعل الشيء نفسه. ستصبح “الاستخبارات الوبائية” جزءاً محورياً من الأمن القومي لدول العالم في المستقبل، إلى جانب مجالات أخرى مثل مكافحة الإرهاب، ومكافحة التجسس، والأمن السيبراني. وستكشف الأسئلة الجادة، التي ستُطرح، ما إذا كانت استجابات هذه الحكومة أو تلك قد استفادت من كمّ المعلومات المتاح أمامها لتجنيب مواطنيها شرور جائحات اليوم… والمستقبل.