صالح البيضاني
شهد اليمن تحولا هائلا خلال العقود الماضية لم يتنبه له الكثير من القادة السياسيين الذين تولوا مقاليد الحكم في البلاد، منذ انهيار النظام الإمامي في 1962 وقيام نظام جمهوري على أنقاضه، وقد تسربت عناصر وأسباب هذا التغيير بصمت، حتى تحول إلى قنابل موقوتة انفجرت في وجه الدولة اليمنية الهشة وأودت بها في نهاية المطاف.
لم يكن هذا التحول البطيء سرا يخفى على الساسة اليمنيين، وخصوصا مراكز القوى التي تقاسمت الثروة والسلطة في شمال اليمن خلال الثلاثة عقود الأخيرة قبل اجتياح الحوثيين لصنعاء، ولكن تقديراتهم لخطورة هذا التحول الذي طرأ على المجتمع اليمني لم تكن دقيقة، فركنوا إلى ذات الطرق البدائية التي دأبوا عليها في ترحيل الحلول والتعامل مع العناصر التي ظنوها مؤثرة في المجتمع، والتي لم يكن بينها واحد من تلك الوجوه التي تصدرت المشهد شمالا وجنوبا، وأقصت مراكز القوى وهيمنت على البلاد في وقت لاحق.
ومن يعرف حقيقة ما جرى في اليمن خلال السنوات الأخيرة، لا يجد إلا إجابة وحيدة للسؤال الكلاسيكي الذي يقول: ما هو دور المثقفين والنخب وشيوخ القبائل في التصدي لتداعيات الأزمة اليمنية التي تحولت إلى حرب في الثماني سنوات الأخيرة؟ والجواب غير المنمق لهذا السؤال المزمن الذي بات يتكرر مؤخرا هو أن من كنا نظنهم نخبا ومؤثرين في مسار التحولات الكبرى في اليمن، لم يكونوا كذلك في حقيقة الأمر، حيث أفرزت التفاعلات الأيديولوجية في بنية المجتمع اليمني قوى جديدة استطاعت طبخ مظلوميتها وتأجيج أفكارها على نار هادئة، في ظل انهماك القوى التقليدية القديمة بتقاسم منافع النفوذ والصراع على توسيع دائرة الهيمنة، وهو ما شهدنا أكبر تجلياته في مطلع العام 2011، عندما انهار التحالف الثلاثي الذي ظل يحكم اليمن لعقود بين الرئيس والشيخ والجنرال، وسقط ركام هذا الصراع المدمر على رؤوس اليمنيين جميعا.
◙ التفاعلات الأيديولوجية في بنية المجتمع اليمني أفرزت قوى جديدة استطاعت طبخ مظلوميتها وتأجيج أفكارها على نار هادئة، في ظل انهماك القوى التقليدية القديمة بتقاسم منافع النفوذ والصراع على توسيع دائرة الهيمنة
تسربت السلطة من بين أيدي الأقوياء في الماضي لصالح قوى جديدة صاعدة مدفوعة بالأيديولوجيا والشعارات وروح المظلومية التي تؤجج روح الثورة والتغيير في نفوسهم، وتلاشى دور مراكز القوى بشكلها القديم وانحصر تأثيرها في التحول إلى أدوات قديمة بيد الفاعلين الجدد الذي اجتاحوا المدن وفرضوا رؤيتهم الحدية القائمة على القطيعة مع كل ما هو قديم من جهة التأثير والنفوذ والحضور الاجتماعي.
في شمال اليمن لم يعد شيخ القبيلة أو القائد العسكري رفيع الرتبة أو حتى المنظر السياسي العتيد هو من يستقطب اهتمامات الناس ويوجه خياراتهم، فقد بزغ جيل جديد من القادة الحوثيين الذين لا تقودهم ثارات حروب صعدة فحسب، بل ثارات الحسين، وكل عقد وصراعات التاريخ التي يسعون لإسقاطها على المشهد اليمني المعاصر.
وفي الجنوب قد يختلف الأمر قليلا من حيث طبيعة القوى الصاعدة وأهدافها وتنوع خياراتها الأيديولوجية، لكن كل أقوياء الأمس والذين استمدوا نفوذهم من ارتباطهم بمركز الثقل التقليدي في الشمال، انتهى بهم المطاف على هامش الحياة السياسية والتأثير العسكري والاجتماعي، بينما تبوأ الصدارة شباب يافعون ومعارضون سابقون خاضوا غمار صراع استمر لأكثر من عقدين في طوره الأخير، مطالبين بحق تقرير المصير واستعادة الدولة.
لقد تغير اليمن بعمق خلال السنوات الأخيرة، واستيعاب تبعات هذا التحول الدراماتيكي الهائل يحتاج إلى مسافة زمنية كافية حتى يمكن قراءة هذه التحولات بعيدا عن تيارات التأثير الإعلامي والسياسي وعواصف الحرب الإعلامية والتزييف التي ضربت وعي اليمنيين بعنف وعمقت عجز المراقبين والخبراء عن تفكيك شفرات المستقبل اليمني الغامض ورسائله التي تشي بالكثير، ولكنها لا تقول شيئا في ذات الوقت.
نقلاً عن العرب اللندنية