فاطمة علي
كاتبة مصرية
في ثمانينيات القرن الماضي صدر تقرير أمريكي بعنوان: “أمّة في خطر”، يدق ناقوس الخطر حول مستقبل التعليم في أمريكا، بعد أن أظهر أداء التلاميذ الأمريكيين تراجعاً في مادتي الرياضيات والعلوم، ممّا جعل الأمّة تستنفر على أعلى مستوياتها، وقد أنشأ البيت الأبيض لجنة مستقلة عن وزارة التعليم، مكونة من (18) مستشاراً تربوياً؛ للوقوف على أسباب هذا الإخفاق.
لاقى هذا التقرير اهتماماً واسعاً داخل الولايات المتحدة وخارجها، وظلّت أهميته مثالاً على الخطورة الحقيقية التي يمثلها التعليم في الأمم المتقدمة، وعلى مستوى الاهتمام الذي يجب أن يولى لملف التعليم وخطورته، خطورة تجعل بلداً كاملاً يستنفر ليواجه إخفاقاته، وليضع بنيه على المستوى نفسه لأقرانهم في باقي الأمم.
مستقبل الثقافة في مصر
ذكّرني هذا التقرير بكتاب عظيم، كتبه الراحل طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، انتبه فيه الرجل صاحب البصيرة الأعمق والأنفذ، منذ ما يقارب قرناً من الزمان، لثغرات التعليم المصري، ومن سوء حظنا أنّ هذا الكتاب الذي كُتب منذ حوالي قرن من الزمان، ما زال بأطروحاته وإشكالاته حيّاً إلى الآن، وما زالت إخفاقات كثيرة تصل أحياناً إلى حدّ البديهيات لم تُحل، وهذا يقودنا إلى سؤال مُتحسّر: ترى لو كان طُبّق ما جاء في كتاب “مستقبل الثقافة في مصر”، وانتبه له رجال السياسة والتربية، فكيف سيكون وضع مصر التعليمي الآن؟.
كان الشباب المصري في أعقاب اتفاقية عام 1936، وما حققته من انتصار ولو جزئي للسيادة المصرية، مأخوذاً بإحساس عميق من الوطنية، فالتفوا حول طه حسين وطالبوه بأن يكتب لهم ما يسترشدون به كخارطة طريق، تمكنهم من بناء البلاد بعد زهو الإحساس بالاستقلال، فراح طه حسين يكتب المقالات؛ كإضاءة لشباب متحمس يريد أن يبني وطناً جديداً، لكنّ المقالات زاد حجمها حتى أصبحت كتاباً رؤيوياً وكاشفاً؛ يمكن اعتباره إنجيل أيّ تربوي.
حاول طه حسين أن يؤصل في كتابه للهوية المصرية، وأن يبحث عن جذور عميقة تتحد فيها الثقافة المصرية بالغربية لا الشرقية، ويمدّ أسباب الماضي بالحاضر، ويتمثل في حاضرنا الآمل استكمالاً لماضينا التليد، في محاولة لتحسس الذات وبناء حدودها، ثم عرج على الثقافة والتعليم باعتبارهما أساس الهوية المصرية، فجعل من التعليم ضمانة للديمقراطية، وأحسبه هنا بلغ ذروة حِكمته، وأغلق باب الثرثرة حول الديمقراطية ومعناها والوصول إلى فردوسها؛ فجعل من شعب متعلم وناضج وواعٍ ضمانة البلوغ للحرية، وضمانة الحفاظ عليها.
أسهب طه حسين بتفصيل عميق في كيفية النهوض بالتعليم المصري، بدءاً من بناء المدارس وأثاثها وإدارتها، مروراً ببناء المناهج وطبيعة التدريس والاهتمام بالأنشطة وتعلم اللغات وإعداد المعلمين، وتدريس النحو، حتى إنشاء مجلس أعلى للتعليم. كان طه حسين سباقاً في بصيرته، ولو كنّا أولينا كتابه اهتماماً صادقاً، لفُقنا بلداناً بدأت استقلالها ونهضتها بعدنا بعقود.
مسار صعب
كانت هذه أولى المحاولات الحقيقية التي أرادت لمصر مساراً تعليمياً وحضارياً مختلفاً، وفي عصرنا الحاضر كانت رؤية مصر 2030، وخاصة في قطاع التعليم، وما شهده من تحولات كبيرة في عهد وزير التعليم السابق طارق شوقي، واحدة من أهم المسارات التعليمية الصعبة، لعمق التغيير الذي أرادته، وطبيعة العصر الذي يُبنى فيه هذا التغيير، فقد أراد شوقي إدخال التعليم إلى عصر الرقمنة، ونقله نقلة نوعية صحيحة، لكن لم تكن الأوضاع مؤسسياً ولا مجتمعياً على قدر تلك النقلة ولا مستعدة لها.
وضعت الدولة رؤية عميقة داخل المنهج، من الروضة حتى التعليم ما قبل الجامعي، شهدت تكاملاً بين مختلف فروع المعرفة، فنجد أنّ الرياضيات لا تخلو من مسحة في التاريخ والجغرافيا والعلوم، توضح تطبيقاتها في مختلف فروع المعرفة، ونجد اللغة العربية تتكامل مع منهج الدراسات والعلوم، والإنجليزية لا تخلو من ظلال المواد الأخرى داخلها، والمنهج الواحد به عدة محاور تتسع بتعمق المنهج، وتمتد بالطالب معرفياً من بيئته للعالم من حوله، وكانت المناهج في السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الابتدائية تلقى ترحاباً طيباً بين المشتغلين في حقل التربية، والكثير من المربين فضلوا مناهج المنظومة على المناهج القديمة، حتى وصل التغيير إلى مرحلة الصف الرابع، الحلقة المفصلية ما بين التأسيس الأولي والبسيط لمبادئ أعمق في اللغة العربية والرياضيات، بالإضافة إلى إدخال مادتي العلوم والدراسات الاجتماعية، وزادت الوزارة بإضافة مادة التكنولوجيا والقيم، ولأنّ المناهج كانت أكثر عمقاً، ولم يكن هناك تمهيد مجتمعي ولا إعلامي يحاول أن ينقل لأولياء الأمور لماذا تتجه دولة للتّخلي عن مقرر تعليمي اعتاده المعلمون واستكان إليه التوجيه، ورضيه الآباء، إلى نظام تعليمي يفي باحتياجات عصر متسارع المعرفة، ولأنّ المنهج القديم لن يشكو، وليس مبنى ستظهر عليه الشقوق، ولن يُعلن أنّه آيل للسقوط، فلن يستوعب أولياء الأمور الحاجة الحقيقية لضرورة تحديث المناهج، ولن يشعر أحد إلّا بتخرج عدة مئات من آلاف الشباب ليس في تكوينهم التعليمي ما يفي باحتياجات سوق العمل، وليس في شهاداتهم ما يفي بمهن مستقبلية، ومن الممكن جداً أن يكونوا قد أعدّوا لأعوام لمهن ستندثر مستقبلاً.
كان التحدي المجتمعي غير المُتبصر واحداً من أهم التحديات التي عرقلت مشروع تحديث المناهج، وكانت تهدئة ثائرة أولياء الأمور تجاه منهج في طور التجريب، من الطبيعي أن يُعدل ويكيف ويُصحح مساره وفق رؤى تربوية وأبحاث جامعية، أمراً طبيعياً، وكان منوطاً بوزارتي التربية والإعلام التمهيد لذلك، وهو الخطأ نفسه الذي نراه في التغييرات العميقة التي يشهدها نظام الثانوية العامة حالياً، فقد جرت دون تمهيد إعلامي أو اجتماعي، في أمر يمسّ كل الأسر المصرية.
ثاني هذه التحديات هو المعلم، ذلك العنصر البشري المنوط به شرح تلك المناهج، في وزارة الجميع يعرف أنّها تعاني من عجز مؤلم، ولا تفي التعيينات القليلة بتسكينه، في ظل تدني تدريبات إعداد المعلمين، وفي ظل شرائح عمرية لمعلمين لن يستطيعوا النهوض بكفايات تلك المناهج، ومدارس بها كثافات لن تستطيع أن تتواءم مع حيوية تلك المناهج ومتطلباتها، فضلاً عن تدني أجور المعلمين، وانخفاض الوضع الأدبي لهم، إلى حدّ خروج واحد من كبار الإعلاميين وقوله: “آخره هيكون مدرس”، في إشارة مُهينة إلى ضياع هيبة تلك المهنة.
أزمات متراكمة
لأنّ الوزارة تعاني من عجز في المعلمين في المواد الأساسية، فمن المستحيل أن يكون لمادتي التكنولوجيا والقيم والمهارات، التي أضافتهما الوزارة ضمن خطة التحديث، جدولاً تدريسياً حقيقياً، على أهمية هاتين المادتين البالغة، وحاجة المجتمع المصري والعصر الحالي لهما، فالحديث عن تدريس حقيقي لهذه المواد في ظل الأوضاع الحالية ترف.
ولأنّ الحلول الموضوعة من قِبل الوزارة لتسكين عجز المعلمين لا تبني مدارس قوية معرفياً، فاقتراح أن يُسد العجز بطالب كليّة التربية أو بخريج الخدمة العامة، الذي يتغير كل عام، وليس عن طريق معلم ثابت يبني صلات تراكمية وخبراتية مع المناهج والطلاب وأولياء الأمور وبيئات العمل، هو اقتراح غير واقعي.
كما أنّ دعوة المعلمين الذين أحيلوا للتقاعد، للعودة إلى التدريس للاستفادة من خبراتهم، هو حل غير عملي كذلك؛ لأنّ المعلم في هذا العمر، وإن كان خبيراً في المنهج وخبيراً في العمل الإداري والإشرافي، فليس لديه، بحكم السن، الجهد اللازم والحيوية المطلوبة لعملية التدريس، أو النشاط المطلوب داخل الفصل.
ظاهرة الدروس الخصوصية مجرد رد فعل
كل هذه الأسباب دفعت إلى استشراء ظاهرة “الدروس الخصوصية”، وأدت إلى أن يصبح هناك تعليم يوازي التعليم الحكومي، ولأنّ المناهج أصبحت أكثر تخصصية، بينما المدارس على واقعها الحالي هزيلة معرفياً، كان توجه الطلاب وأولياء الأمور لـ “مراكز” التعليم الخاصة أمراً حتميّاً، وهو أحد أبرز نواتج سوء التخطيط المتكامل للمنظومة التعليمية، فمناهج بهذا العمق كان من الواجب أن يصحبها كوادر بشرية بالعمق نفسه من الإعداد، وزيادة عدد الطلاب كان من الواجب أن يزداد معه عدد المعلمين، ومناهج تتكامل فيها المعرفة، وتبحث عن تكامل معرفي وروحي وجسدي، كان يلزمها مدارس مصممة لخدمة تلك المُتطلبات.
إنّ خطورة تلك المراكز الخاصة ليس في كونها تُثقل جيوب الأسر المصرية، فهذا أهون ما في خطورتها، ولكن لأنّ هناك تعليماً يتم بعيداً عن أعين الدولة، وبعيداً عن رقابتها في أماكن معرضة لنمو مناهج خفية وسلوكيات وتوجهات بعيدة عن فلسفة المجتمع وأمانه، وهي أزمة حقيقية.
كما أنّ هذه المراكز الخاصة تركز في هدفها على إنماء الجانب العقلي فقط، دون بقية جوانب النمو الإنساني، وهذه مشكلة كبرى، وحتى هذا الجانب العقلي الذي تستهدفه، إنّما تقصد به أداءً مرتفعاً وكميّاً في ورقة الاختبار، دون أن تكون أحدثت ما هو مطلوب بشكل كامل من حقيقة المعرفة وسموها؛ بعيداً عن الاختبار ودرجته.
لقد أصبح لمراكز التعليم الخاصة دور يتحدى دور الدولة، ويقزم من دور المدرسة، وهي البُنيان المختص بالنمو المتكامل للطالب، والذي لن تغني عنه أفضل المراكز التعليمية، ولا الحصول على الدرجات النهائية.
إنّ أيّ حل تتخذه وزارة التعليم، لا يتضمن عودة الطالب إلى المدرسة، وعودة المعلم مُهاباً ومصوناً ومصدراً مهمّاً للتعلم، وعودة المدرسة ككيان رسمي منوط به التربية والتنشئة الحقيقة، لن يكون حلّاً واقعيّاً في أزمة كبيرة لأمّة كبيرة.
نقلآ عن حفريات