الحركات السياسية الموقعة على اتفاق جوبا أمام فرصة جديدة لتشكيل حكومة كفاءات والوصول لنهاية المرحلة الانتقالية بأمان
كتب : محمد جميل أحمد
في الوقت الذي يستقبل فيه السودانيون العام الخامس والستين من حدث الاستقلال الذي تم في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1956، لا تزال الاستحقاقات المؤجلة لهذا الاستقلال تنعكس حتى اليوم في ملفات وقضايا دخلت أطوار الإهمال فيها منعطفات خطيرة؛ كان من نتائجها المؤسفة انفصال جنوب السودان، والحرب الأهلية في دارفور، والتمرد في مناطق أخرى من البلاد.
يستقبل السودانيون اليوم ذكرى الاستقلال في ظل ثورة لا تزال تتلمس خطاها من أجل تثبيت ركائزها الأساسية في الفترة الانتقالية الراهنة من أجل الشروع الحقيقي في معالجة ملفات لا تزال حتى اليوم تعكس اختلالاً عميقاً في الاجتماع السياسي للسودانيين، وهو اختلال ينبغي أن يجد في ظل هذه الثورة فرصته الأخيرة لتحقيق مقومات راسخة وعادلة لطبيعة ذلك الاجتماع السياسي.
كان واضحاً منذ الاستقلال غياب التفكير المستقل في قضايا بناء الدولة. ونعني بالتفكير المستقل القدرة على رؤية المصير السياسي للسودانيين بعيداً عن النمذجة النخبوية الخادعة التي أسس لها المستعمر كمخلب قط لإغراء طبقة الأفندية السودانيين ممن رأوا في مثالات النخبة الإنجليزية تقليداً حداثياً مغرياً بالاتباع، فبدا لهذه الطبقة كما لو أن الدولة السودانية قد اكتملت استحقاقات بنائها، على قياس دولة بريطانيا العظمى!
وفي حين كان هناك وعي جنيني لنخبة قليلة جداً من أفراد الحركة الاتحاديين (الأبروفيين تحديداً؛ نسبة إلى حي أبروف الأمدرماني) رأوا في نموذج حزب المؤتمر الهندي الذي أسسه غاندي ما يمكن أن يكون أقرب للنمذجة والاحتذاء السودانيين (وهو النموذج الذي أثبت جدارته في بناء دولة وطنية للهند)، كان خطاب الأحزاب السودانية يعكس وعياً مأزوماً لعموم الطبقة السياسية في السودان، وهو وعي نشأ على خلفية انقسام الحركة الوطنية ممثلةً في مؤتمر الخريجين (الذي استلهم اسمه من المؤتمر الهندي) إلى حزبين كبيرين، نادى أحدهما بالاتحاد مع مصر (حزب الشعب الديمقراطي) في حين دعا الآخر إلى (حزب الأمة) بشعار (السودان للسودانيين)، والعجيب في الأمر أنه حتى اسم (حزب الأمة) السوداني وشعاره كان في الأصل استلهاماً مصرياً (حزب الأمة الذي أسسه لطفي السيد)، وشعار “مصر للمصريين”!
لهذا يمكن القول إن القدرة على تدوير أفكار ومفاهيم مثل الوطن، والمواطنة، والديمقراطية، والشعب، تدوير نسقي محدود وعاجز عن رؤية الحقيقة الوطنية للاجتماع السياسي، كانت قدرةً محدودةً، في حين كانت أزمات الاستحقاق السياسي والتنموي تتفاقم بمرور الزمن.
وهكذا، بدت مرحلة انقلاب الإخوان المسلمين التي دامت ثلاثين عاماً (1989 – 2019) ذروة الأزمة في الاجتماع السياسي للسودانيين، حيث كان التفاقم الذي راكمته تجربة الإسلام السياسي على جملة الأخطاء السياسية المصيرية منذ الاستقلال بلغ أسوأ نماذجه المأزومة.
ومع بداية العهد الثوري الجديد، يمكن القول إن الثورة اليوم تدخل تحديات خطيرة متأتية من نتائج الخطايا السياسية المتراكمة منذ الاستقلال، ومواجهة نتائج تلك الخطايا والكوارث سيصبح مهمة شبه أسطورية، ولكن لا بد منها، إذا ما أراد السودانيون وطناً تنعكس حقوق المواطنة فيه على الجميع بمستوى واحد وعادل من الاستحقاق.
لقد كان هناك وعي شقي لنخبة سودانية متعلمة، ماهت حدود المواطنة مع حدود ما سماه عبد السلام نور الدين محور (دنقلا – الخرطوم – كوستي)، وهو شريط نيلي ناطق في أغلبية سكانه بالعربية، في حين كانت بقية أقاليم السودان ترزح تحت التهميش والإهمال مع استغلال مواردها لمصلحة المركز بطريقة أدت مع مرور الزمن إلى انفجار قنابل التهميش الموقوتة في شكل حركات مسلحة، بدأت من الجنوب، ثم انتقلت إلى الغرب، ثم الشرق.
لقد مر السودان منذ الاستقلال، ونتيجة للأخطاء الكارثية لحكوماته المتعاقبة بمحطات انقسام وحروب أهلية وفساد بلغ ذروته الفاحشة مع نظام عمر البشير. واليوم نتصور أن هوية الصراع على صورة سودان المستقبل تكمن في تنازلات ضرورية بين مكوناته، وينبغي أن تتمثل في مساومة تاريخية من أجل استيعاب دروس الماضي، لا إعادة إنتاجها، وهذه التسوية اليوم تحتاج إلى هز وتغيير قناعات راسخة في ذهن بعض نخب المكونات السودانية تتصور البلاد على صورتها.
وعلى الرغم من أن هناك إمكانية لصناعة تصور وهوية واحدة للسودانيين قد تعود جذورها إلى إحدى مناطق البلاد مثلاً؛ فلنقل الشمال والوسط، فإن الرهان الحقيقي لسودان المستقبل ليس في أن تكون الهوية الجامعة للمواطنين آتية من منطقة معينة، فذلك ما لا بد منه في أطوار نشأة الدولة – الأمة، بل الرهان الحقيقي يكمن في أن تكون شروط وحقوق المواطنة وقيم الدستور متحققة في جميع المكونات السودانية المختلفة، مع الحرية في توفير الحق الدستوري الكامل لكل هويات البلاد الصغرى في التعبير عن مزاجها الثقافي والفولكلوري في إطار نظيرتها الجامعة، أي بما يحقق فكرة الوحدة في إطار التنوع.
بكل تأكيد، إن من يتصور السودان على صورته كوهم أيديولوجي دوغمائي متطاول (من أي منطقة كان من مناطق البلاد) سيكون عسيراً عليه تقبل فكرة الهوية السودانية الواحدة في إطار التنوع.
ولقد أثبتت التجربة أن هذا الوهم قد يعشش حتى في أذهان النخبة وكبار المثقفين والمبدعين، إذ رأينا نموذجاً واضحاً لذلك؛ عندما قام نظام البشير (بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا في عام 2005، وبعد أن أبصر استقبال أكثر من مليون سوداني في الساحة الخضراء للزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق) بجمع مثقفين ومبدعين كبار من منطقة سودانية معينة (الشمال) لمواجهة مد الحركة الشعبية الجنوبية! فتداعى له، للأسف، مثقفون كبار، طالما حسبناهم نخبة مستنيرة، من أمثال الراحل حسن ساتي، ومحمد إبراهيم الشوش، وخالد المبارك، بل بلغت محاولات نظام البشير في الاستقطاب المناطقي إلى مبدعين كبار من أمثال الروائي الطيب صالح، والفنان محمد وردي.
إن هذا المثال الذي مر بنا آنفاً، هو ما ينبغي تجنبه في ظل هذه الثورة، بحيث تكون القدرة على قبول رؤية مصير السودان في إطار الهوية الواحدة والمتنوعة لها قابلية مرنة للاستجابة في عقول النخبة التي تتصور البلاد على صورتها، دون أن تعترف بالآخر الحميم والمكافئ لها في حقوق المواطنة في كل من الشرق والغرب والجنوب. لقد أثبتت جميع تجارب الدول الناجحة في العالم؛ مثل سنغافورة وماليزيا، أن توفير مبدأ تكافؤ الفرص للجميع في استحقاق العدالة وشروط المواطنة هو أقصر الطرق إلى النهضة والديمقراطية والوحدة والسلام والتنمية.
وفي الجانب الآخر، هناك أيضاً سرديات أيديولوجية مضللة في خطاب بعض الحركات السياسية المناطقية التي اضطلعت بعبء مواجهة المركز عبر رؤية تضمر فكرة البديل (وليس المكمل) لنخبة المركز عبر استهداف الصراع من أجل الإزاحة بدلاً من الحوار والاتفاق على كيفية حكم السودان بطريقة عادلة.
فغني عن القول، إن رؤى انتقامية كهذه ستكون بديلاً فاشلاً يعيد إنتاج فشل نخبة الشمال والوسط الذي جربه مسؤولون وسياسيون ممن تولوا حكم السودان منذ الاستقلال؛ ذلك الفشل الذي أشار إليه المفكر الليبرالي الراحل منصور خالد في كتابه الأشهر “النخبة السودانية وإدمان الفشل”.
وإذا كانت الخبرة المناطقية للشمال في حكم السودان من الوسط النيلي منذ الاستقلال متأتية من مخزون حضاري عرف كيف يهيمن فيه على البلاد، وهو خزين خبرة، لا يتوفر لا للشرق ولا للغرب ولا للجنوب، ومع ذلك أدت تلك التجربة إلى الفشل الذي أنجب التاريخ السياسي المعطوب للسلطة في البلاد منذ استقلالها، فإن أسوأ ما يمكن تصوره في ردود فعل بعض حركات الهامش التي قد تسير على خطى الشمال في أسلوب الهيمنة ذاته أن تعكس هيمنتها تلك فصولاً جديدة من العذاب السياسي للسودانيين لا تكون نتيجته النهائية إلا الفوضى والخراب.
والغريب في الأمر أن يجد المرء لدى بعض أعضاء وقادة حركات ما تسمي نفسها حركات الهامش؛ ترديد أثيرة تأتي على لسان قادتهم في كل خطاب عام وهي جملة “مخاطبة جذور الأزمة السودانية” من دون أي إدراك تفصيلي لكيفية شرح هذه الجملة، الذي كان القائد الجنوبي الكبير جون قرنق هو صاحبها، ومن القلائل الذين يملكون القدرة على تفسيرها وشرحها بطريقة منهجية وموضوعية.
لهذا، في حين كان واضحاً أن الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الزعيم الراحل جون قرنق تملك شعاراً يفسر رؤيتها للبلاد تحت اسم “السودان الجديد” (على الرغم من أن كثيرين، من بعد جون قرنق، عجزوا عن الإتيان بتفاصيل تعكس رؤية مفهوم السودان الجديد في مفاصل كثيرة)، وفي حين كان ممكناً تفسير وجود سودانيين من الشمال والغرب والشرق (ولو كانوا قليلين) فإننا سنجد من العسير أن نجد تفسيراً يقنعنا بأن إحدى حركات دارفور يمكن أن تكون حركة قومية شاملة لجميع المواطنين في الشمال والشرق والجنوب، كالحركة الشعبية قبل انفصال الجنوب مثلاً، في الوقت الذي نجد فيه أن بعضها يكاد تقصر عضويتها على أفراد قبيلة واحدة مثلاً، تماماً مثل فصائل مؤتمر البجا، شرق السودان، التي انقسمت إلى أحزاب وفي كل حزب منها لا تكاد تجد شخصاً من غير الناطقين بلغة واحدة من لغة إحدى لغتي البجا (البداويت)؟!
ولهذا، لم يكن مستغرباً أن يتحول رئيس الفصيل الأكبر لمؤتمر البجا، موسى محمد أحمد، ليكون بعد الثورة جزءاً من المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، وهو مجلس يطرح خطاباً انعزالياً قائماً على إقصاء مكونات أصيلة أخرى من البجا في شرق السودان كمكون بني عامر والحباب، الذي يريد المجلس في سرديته السياسوية التعيسة إعادة تعريفهم بما يضمر إخراجهم من مكوناته بإخراجهم من مسمى البجا، وبالتالي يسوغ لنفسه إخراجهم من جملة السودانيين!
هكذا، سنجد أنه في حال إرادة وسعي أي فصيل سياسوي أو مناطقي في السودان إلى إزاحة أي مكون آخر أو إلغائه ليكون بديلاً عنه في المركز، فإنه بالضرورة سيعيد إنتاج أخطائه وخطاياه، وبالتالي يعيد البلاد إلى الدائرة الجهنمية في صراع الإقصاء المتبادل بين المكونات السياسية!
وهذا تحديداً هو سيناريو الفوضى الذي ستكون نهايته حروباً أهلية ومحواً لاسم السودان من الخريطة الجيو سياسية لأفريقيا.
لتفادي كل تلك الاحتمالات والسيناريوهات الفوضوية المرعبة، يمكن القول إنه حتى الآن، هناك فرصة لتدبير الاجتماع السياسي السوداني وفق رؤية جديدة، من خلال المرحلة الانتقالية، قائمة على الحقوق العادلة في المواطنة والعدالة والدستور لجميع المواطنين، إذا وعت كل الفصائل السياسية والمكونات العسكرية قيمة هذه الفرصة العظيمة التي وفرتها الثورة لجميع السودانيين.
وإذا كانت ذكرى الاستقلال مناسبة لإعادة التفكير في دروس الماضي والتأمل فيما تحقق لجميع المواطنين من حقيقة الاستقلال، فإن أمام قوى الحرية والتغيير والحركات الموقعة على اتفاق جوبا، والمكون العسكري، اليوم بمناسبة ذكرى الاستقلال، فرصةً جديدةً لتكوين الحكومة الثانية للمرحلة الانتقالية وفق أفضل السبل التي تلبي مطالب المواطنين في حكومة كفاءات قادرة على تدبير حدود مقبولة من تيسير وتحسين سبل العيش الكريم لجميع المواطنين السودانيين، وعلى الانتقال السلس والوصول إلى نهاية المرحلة الانتقالية بأمان.
نفلا” عن أندبندنت عربية